مقالات متنوعة

قراءة في كتاب الموتى

أكرم أنطاكي

يقال إنه عند بوابة معبد تاييس في روما كان ينتصب تمثال لامرأة منتقبة من رأسها حتى أخمص قدميها، تحمل بين يديها لوحاً نُقش عليه: “أنا إيزيس ذات الجلال… تلك التي كانت ومازالت وستبقى إلى الأبد… تلك التي لا يكشف نقابها حيٌّ…”.

ويتبسم بعضهم لدى سماعه مثل هذا الكلام الذي قد لا يعني في نظره شيئاً. فإيزيس لم تعد، وتراثها قد اندثر، وما نسمعه أو نقرأه عنها اليوم قد لا يتعدى مجرد ميثولوجيا… ولكن…

من قال إن إيزيس لم تعد؟ ثم، تراها من هي “… ذات الجلال… التي كانت ومازالت وستبقى إلى الأبد… [و] التي لا يكشف نقابها حيٌّ…”؟!

وقد يكون الموت هو نقابها… فإذا كان الأمر كذلك فعلاً، إذ ذاك، لعل “… تلك التي كانت ومازالت وستبقى…” هي أمنا، ورمز الحياة الأزلية…

ونبدأ من هنا، بعين قلبنا، نحاول، من وراء النقاب، بحياء وتخشع، نتلمس بعضاً من سرّ…

تلك التي كانت، ولم تزل تدعى… “سيدة الأفراح والأتراح”… تلك التي تعيدنا إلى الـ …

بداية

قلت بعين قلبنا… وأنا أعني فعلاً ما أقول… وأنا أشعر بثقل ذاك الذي أمسى اليوم يقيد جميع أفعالنا… ذاك العقل البارد الذي انقطع، بمشيئة الألوهة، عن جذوره…

وقد كان اسمه عند قدماء المصريين سِت Seth أو الشيطان – ذاك الذي كان الأجمل والأقوى بين الآلهة، حتى كان سقوطه… ومع سقوطه، بمشيئة الألوهة أيضاً، بدأت مأساتنا، إن لم نقل، مسيرتنا…

والبداية من خلال ذلك العقل قد تكون، ههنا، مجرد محاولة متواضعة للتأمل في بعض أسس ديانة مصر القديمة. ولكني…

قلت “بعين القلب”، وعقلي يقيِّدني، ويعيدني، عبر منطقه، إلى ما أفترضه “بداية”… وتلك حين أقرأها بعين قلبي تقول على لسان آتم إن…

“… كنت وحيداً وساكناً في قلب النون حيث… لم يكن ثمة مكان لوقوفي أو لجلوسي… لم تكن هيليوبوليس مدينتي قد أُسِّست بعد… ولم يكن عرشي بعد قد صُنع… ولم أكن بعد قد خلقت نوت، ذلك المجمع الإلهي الذي كان مايزال في داخلي… كنت أحلِّق ساكناً وكأني العدم…”

ويقول النون، أو “العدم”، لآتم إن:

“… تنشق ابنتي مآت وأرفعها إليك مستنشقاً لكي يحيا قلبك. ولتكن ابنتك مآت وابنك الحياة معك واحداً…”

وكان أن:

“… خلقت نفسي بنفسي كما أردت… فكنت ذلك الأزل… رآ الخارج من النون [أو العدم]… وسيد النور…”

وكان اليوم الأول، حيث، كما تقول الأسطورة، جسّد آتم-رآ الثنائي الإلهي الإله شو والإلهة تفنوت… كان شو يمثل، من خلال بعده الأول نسمة الهواء، بينما كانت تفنوت تمثل من خلال البعد نفسه الرطوبة… أما من خلال بعدهما الثاني فكانا يمثلان الزمان والمكان، حيث كان شو يمثل بعد الزمن الأزلي، وكانت تفنوت تمثل بعد المكان اللامتناهي…

وينجب شو وتفنوت… ومن النسمة والرطوبة والزمان والمكان يولد الكون عبر الثنائي الإلهي جب ونوت… حيث كان الإله جب يمثل الأرض أو الجماد، بينما تمثل الإلهة نوت السماء التي تحتضنها.

ويتابع “مهندس الكون” – صانع العالم demiurgos – صنعته بعد إيجاده للـ”نظام الكوني” بخلق “النظام الأرضي”… فمن الثنائي الإلهي جب ونوت كان الثنائيان الإلهيان إيزيس وأوزيريس وست ونفتيس… وقد كان الثنائيان متكاملين، حيث الثنائي الأول إيزيس وأوزيريس يمثل قوى الحياة والخصب، بينما يشكل الثنائي الثاني انعكاساً له ونقيضاً، إن لم نقل إنه كان مكمِّلاً له. بذلك تكتمل الألوهة المصرية وقد أضحت تساعية التجلي… تلك…

“… الكبرى القاطنة في هيليوبوليس: آتم، شو وتفنوت، جب ونوت، أوزيريس وإيزيس، ست ونفتيس، أبناء آتم السعيد بأولاده…”

وتستمر الخليقة ويكون الإنسان، كما جاء في مخطوط الطريقين:

“تلك كانت الكلمات التي نطق بها سيد الأكوان: عند بوابة الأفق قمت بأربعة أعمال جليلة. خلقت الرياح الأربع بحيث يستطيع كل كائن أياً كان مكانه أن يستنشقها. وكان هذا هو العمل الأول. ثم خلقت الفيضان لينمو من خلاله الصغير والكبير. وكان هذا عمل آخر. ثم خلقت كل إنسان مساوياً لأخيه، ولم أسمح بالشر. ولكن قلوب البشر خالفت إرادتي. وكان هذا ثالث أعمالي. وجعلت قلوبهم لا تفكر بالغرب، وجعلتهم يرفعون ابتهالاتهم لآلهة المحبة. وكان هذا آخر أعمالي. فقد خلقت الآلهة من عَرَقي والبشر من دموعي…”

وتتم الخليقة، ويقف الإنسان، ذلك الذي خلقته دموع رآ ساجداً، مسبِّحاً الخالق… وتلك الشمس التي ترمز إليه…

ترنيمة مرفوعة إلى رآ حين يشرق

“… لك التكريم، يا من أنت رآ حين تشرق وتمو حين تغرب. إنك تشرق، إنك تشع، إنك تشع. يا من تُوِّج ملكاً على الآلهة. أنت سيد السماء، [أنت] سيد الأرض؛ [أنت] خالق المقيمين في الأعالي وخالق القاطنين في الأعماق. [أنت] الإله الواحد الذي ولد في بدء الزمان. خالق الأرض ومكوِّن الإنسان…”

وفي المساء، بعد أن يعبر عمن-رآ بمركبته الإلهية قبة السماء ويعود إلى مآت… يسبِّح الإنسان المصري القديم العائد من حقله أو من عمله خالقه من جديد قائلاً:

“… لك التكريم، أيها الكائن المجيد… يا سيد الأبد، يا أمير الأبدية، يا عاهل كل الآلهة، يا إله الحياة، يا خالق الأبد، يا صانع السماء… إنك تنطلق كل يوم فوق السماء والأرض… إنك تعبر أعالي السماء، وقلبك مفعم بالفرح؛ وبحيرة تستس مطمئنة بذلك… رآ يحيا بمآت الجميلة. وقارب السكتت يدنو ويرسو، الجنوب والشمال، الغرب والشرق، تلتفت لتسبِّحك، يا جوهر الأرض البدئي الذي نشأ من تلقاء ذاته…”

ويستصرخنا ست، من خلال عقلنا، لكي نتوقف قليلاً ولنتأمل، بمنطق الأشياء، في تلك الأسطورة التي أوردنا ونورد، من خلال ماديتها – ومادية الأشياء تدفعنا إلى التفكير في طبيعة المجتمع المصري آنذاك وبمستويات تطوره…

والمجتمع المصري آنذاك كان مجتمعاً زراعياً، وحياته كانت تتمحور حول علاقته بالأرض وبما تنتجه، وحول النيل وفيضاناته وطميه وما يحمله لتلك البلاد من خصب… وأيضاً، حول الجفاف والصحراء والموت… ومن هذا الواقع المادي نفسر اليوم نشأة تلك الأساطير التي سادت في حينه على ذلك المجتمع الزراعي البدائي، النابع من غياهب ما قبل التاريخ… ولكن…

إذا كانت الأمور كذلك فعلاً فإن التساؤل الأساسي يبقى: من أين، تحديداً، نبع ما يدعوه منطقنا المحدث “أسطورة”؟! أمن تلك الغياهب التي يدعوها علمنا “ما قبل التاريخ”؟ كيف، والأسطورة، وما وصلنا منها، تعبّر عن رقي روحي لامتناهٍ في سموِّه؟! وهذا قد لا يتفق، قياساً إلى جدلية منطق العقل، مع ما نفترضه “همجية بدائية”…

ويتبسم ست ولا يجيب… ويدعنا لذاتنا من جديد لنتابع التحليق مع الأسطورة… وهذه تعيدنا من السماء إلى الأرض… ومن خلال تواصل السماء مع الأرض، تقودنا إلى…

أسطورة أوزيريس

والفهم الظاهر لتلك الأسطورة يتحدث عن أوزيريس-أونينينفير (ذاك الذي يبقى كاملاً إلى الأبد)، خليفة جب، وملك الأرض الذي وهب الحضارة للبشر… الأمر الذي جعله معبودهم فـ… أثار غيرة أخيه ست الذي تآمر مع اثنين وسبعين من أنصاره لقتله… ويتمكن ست من الحصول على مقاييس جسم أوزيريس… ويصنع تابوتاً رائع الجمال ينطبق على تلك المقاييس… ووسط حقل يضم الجميع يعرض ست ذلك التابوت الذي يثير إعجاب الحضور… يقترح ست تقديم التابوت هدية لمن تنطبق قياسات جسمه على التابوت… وكان ذلك الشخص هو أوزيريس الذي يسارع المتآمرون فور استلقائه داخل التابوت إلى إحكام إغلاقه بالرصاص وإلقائه في النيل الذي يحمله إلى البحر الذي يبتلعه… لكن زوجه إيزيس وشقيقتها نفتيس، زوج ست، المفجوعتين بفقدان أوزيريس، تتمكنان من العثور على الجثمان وإعادته إلى بيبلوس… ويكتشف ست مخبأ الجثمان فيقطِّعه إلى أربع عشرة قطعة ينثرها فوق أرض مصر… وتعاود إيزيس ونفتيس البحث من جديد… يساعدهما رآ عبر توت وأنوبيس اللذين يعيدان تشكيل جسم أوزيريس… وتلك كانت أول مومياء… ومن خلال صلوات إيزيس ونفتيس يعود أوزيريس إلى الحياة من جديد… تتحد إيزيس مع جسم حبيبها وتحبل فتلد ابناً هو هوروس… وتربيه سراً حتى يكبر ويصبح قادراً على الثأر لأبيه… ويصارع هوروس ست ويهزمه… وتنتهي الأسطورة بانتصار الخير و… – وهذا أروع ما في الأمر – باستيعاب رآ لسِت الذي يعود ليسهم في قيادة المركب الإلهي…

وينتهي بهذا عرضنا لما أسميناه فهماً “ظاهراً” لأسطورة أوزيريس التي تشكل بحق مفتاح ديانة مصر القديمة… ولكن… ما هو يا ترى ذلك الفهم الآخر لتلك الأسطورة الساحرة؟…

حول هذا الموضوع يحدثنا غ. قولبقجي في مقدمته لـكتاب الموتى قائلاً:

“كان المصري القديم مبهوتاً، مفتوناً بسر الموت. كان الكون بأسره في نظره تابوتاً عظيماً، كونياً. وفي مركزه كان أوزيريس، الإنسان الكوني، الساقط، السجين، المشلول، الذي يخضع جسمه لقوى الشر. إنه “الإنسان الأول” عند الغنوصيين […]، آدم قدمون القباله، وبطل المأساة الكونية البدئية. “الكائن الخيِّر”، أوزيريس، قد ضحى بذاته؛ وهذه التضحية ظلت لغزاً مبهماً […].

“بموت أوزيريس – الإله المركزي – لا تتجلى الآلهة الأخرى إلا وفقاً لهذه المأساة: إنها تقدِّس ذكراه وتمجدها؛ تبكيه، تثأر له. وكالعدوى، سرعان ما يصيب موت أوزيريس صفوف الآلهة الذكور، صغارها وكبارها: يمسي رآ وهوروس، بتاح وآمن، هابي، وقبحسنوف، إلخ، جامدين، أذرعهم متصالبة على صدورهم – في وضعية المومياء الكهنوتية -، ينبثقون أمامنا تحت سمات أوزيريس الذي جمّده الموت. الآلهة تحتضر؛ الآلهة ماتت… وماذا عن الإلهات؟ إنها تحيا لكي تنتحب ولكي تندب. جو مفجع، استيهامي، غير واقعي يهيمن على الحياة المصرية كلها […]…

“قوى الشر تنتصر. أجل إن إيزيس ونفتيس، هاتور ونيت تحمي عالمنا المفجوع؛ لكن إيزيس – الإلهة المركزية –، أمست أرملة. وكاليتيم، كـ”ابن الأرملة”، يحيا كل مسارَر مصري على الأرض متروكاً، وحيداً، مستسلماً…

“مات أوزيريس، لكن أوزيريس لم يزل. إنه ههنا، سيد عمنتي ومليك العالم السفلي. إنه كبير قضاة الموتى. ساكناً، جامداً، موثقاً بعصائبه كمومياء، يتقبل تكريمهم. أجل، إنه موجود؛ لكنه ظِلٌّ بلاقوام، شبح، أقل واقعية حتى من أولئك الموتى الغادين الرائحين، المتدافعين، المنتحبين في غياهب الظلمات الأبدية […].

ترنيمة إلى أوزيريس

“… لك التسبيح، يا أوزيريس، رب الأبد، أون-نفر، حرو-خوتي (هرمتشيس)، العديد الأشكال، والجليل الصفات، بتاح-سكر-تم في عنو (هيليوبوليس)، رب الموضع الخفي، وخالق حة-كه-بتاح والآلهة [هناك]، مرشد العالم السفلي الذي تمجده الآلهة حين يغرب في نوت. إيزيس تعانقك بسلام، وتطرد العفاريت من فم دروبك. إنك تولّي وجهك نحو عمنته، وتجعل الأرض تشع كما النحاس المكرَّر. أولئك الذين رقدوا ينهضون لرؤيتك، ويتنفسون الهواء وينظرون إلى محيّاك حين يصعد إلى أفقه. قلوبهم بسلام ماداموا يشاهدونك، يا من هو الأبد والأبدية…”

وقفة تدعي العقلانية

“أي جنون هذا! أي هراء! وأي تخريف!” بهذه الكلمات قبل ما يقارب الخمسين عاماً تحدث العالم الألماني الكبير المختص بالمصريات أدولف إيرمان، واصفاً عقلية قدماء المصريين وديانتهم… ويجيبه متبسمين زملاء له إنكليز بأن “ذلك الشعب كان شعباً مجنوناً” وأن كتاب الموتى الذي نحن بصدده لا يتعدى “مجرد أقصوصة مملة، إن لم نقل مجموعة ترهات خانقة…”. ويضيف بعض الأطباء النفسيين إنهم “يجدون أنفسهم من خلال تلك الديانة القديمة أمام ظاهرة شعب مصاب بالهستيريا، إن لم نقل بالفصام…”.

قد يميل بعضنا إلى تأييد وجهة نظر هؤلاء… وقد يتساءل، من منطلق ما يسميه “عقلاً”، عن سبب انشغالنا بأولئك السُذَّج الذين قضوا؟!… لماذا ننشغل بالأموات، والأحياء أولى باهتمامنا؟!…

هذا، على الأقل، ما قد توحيه لنا ماديتنا التي سرعان ما تدفعنا، أياً كانت العقيدة التي نزعم اعتناقها، إلى عدم التفكير بالموت… فالموت أمسى في عصرنا المادي هذا موضوعاً محظوراً… ولكن…

كلنا يعلم أن هذا هو مصيرنا جميعاً، أياً كنّا… وأن لابد في هذه الحياة “الدنيا” من مجابهته بهذا الشكل أو ذاك… من خلال من نعرف ونحب، ممّن هم بضعة منا… وأن نجابهه كمصير محتّم… حيث…

“لا حول ولا قوة إلا بالله”، الذي “إنّا لـ[ـه] وإنا إليه راجعون”، كما تقول حكمة الدين الحنيف… وكما رددت، وتردد معها – بتعبيرات أخرى -، جميع الحكم في جميع الأديان…

فعبر آلاف السنين، وعلى كرّ الأجيال، كانت مأساة الضمير الإنساني تتمحور حول المضمون السرّاني للموت كبوابة تتصل حياتنا من خلالها بالأبدية…

وأكثر من جميع الشعوب الأخرى، كانت حياة قدماء المصريين تتمحور حول ذلك السر الأزلي لذي بقي الشاغل الرئيسي للإنسانية … حتى ذلك العصر الذي نصطلح على تسميته اليوم بـعصر “النهضة” Renaissance، و…

الذي نلاحظ إبّانه تقدم الفكر المادي، والتراجع التدريجي لاهتمام البشرية بالحياة الآخرة… فمع سيطرة التفكير المادي، لم يعد الموت شاغلاً للبشرية التي أمست اهتماماتها تتمحور حول ما تفترضه واقعها “الملموس”… لم يعد الإنسان “المعاصر” يبدي أي اهتمام جدي بتلك الآفاق الواسعة للحياة غير المادية. فتزعزعت بذلك أسس عالمه الروحي والأخلاقي…

ويتلمس الإنسان المعاصر، وهو داخل اليوم في الألف الثالث بعد الميلاد، هذه المأساة… لذا، نراه يعود اليوم، وجلاً حذراً، للتفكير مجدداً بما تضمنته كتب الحكمة القديمة… ومن ضمنها ذلك الكتاب الذي نستعرض في هذه الدراسة بعض ما جاء فيه… كتاب الموتى – كما أسميناه – الذي كان قدماء المصريين يسمونه فصول في الخروج في وضح النهار … ومن خلال عقولنا، وقلوبنا، نتابع التأمل بما تعنيه…

ظاهرة الموت…

حيث لم يعد للموت، عند غالبية البشر اليوم، بعداً سرّانياً… ولكن…

إن عدنا إلى أعماق نفوسنا… إن تأملنا بتلك الظاهرة من خلال ذلك الجثمان المسجّى أمامنا، في تلك اللحظة التي نعرف وعرفنا جميعاً… إن تأملنا بذلك الإنسان الذي أمسى جيفة – وكان قبل سويعات “حياً” أمامنا.. إن تأملنا بجسمه وقد غادره ذلك الكائن اللامرئي المجهول الذي كان يسكنه… أنرانا لا نجد أنفسنا أمام مأساة هي، من حيث أبعادها، المأساة الأخيرة من سلسلة تلك المآسي والانهيارات الكونية؟…

أتراه، يا ترى، عبى صعيدنا البشري، تجسيد لسقوط الآلهة؟… لست أدري!… ولكن لم لا نعترف بكل تواضع بذلك البعد الروحي والسرّاني غير المتناهي الذي يتملّكنا في تلك اللحظة من خلال ما نشعر به من ألم؟… وكأن الألوهية شاءت بحكمتها أن يكون الألم بوابتنا الرئيسية إليها…

اليوم، ومن خلال كتاب الموتى، نتلمس، ربما، بأن الموقف من الموت هو ما كان يشكل بحق عمق قدماء المصريين وعظمتهم… وهذا الموقف هو ما عبّرنا عنه في بداية بحثنا هذا، من خلال ما أسميناه “نقاب إيزيس”…

فالموت كان، ومايزال، وسيبقى مصيراً ومآلاً… يقف الإنسان المعاصر أمامه اليوم، كما وقف المصري القديم قبل آلاف السنين، عاجزاً… وكأن الإنسان يواجه من خلاله نهاية، إن لم نقل هوة، لا يمكن عبورها… ولكن، ربما…

كان ذلك وهماً أو حقيقة… فإن شعورنا، من خلال ما نتلمسه اليوم من ديانة مصر القديمة، هو أن أبناءها قد نصبوا، من خلال إيمانها، جسراً حاولوا عن طريقه تجاوز تلك الهوة نحو ذلك المجهول الذي لا نعلم… ومن خلال الدموع، ومن خلال الألم، تبدأ – والله أعلم – تلك…

المحاكمة أو

عملية وزن القلب

“… قلبي معي، ولن يحدث أبداً أن يُغتصَب. أنا سيد القلوب، ذابح القلب. أحيا في الحق والحقيقة [مآت] وكياني فيها. أن هوروس، المقيم في القلوب، الذي داخل المقيم في الجسد. أحيا في كلمتي، ولقلبي الكينونة. فلا يُغتَصَبَنَّ مني قلبي، ولايُجرحنّ، ولايُسدَّدنّ إلي جروح ولا انتهاكات لأنه اغتُصِب مني. ليكن كياني في جسد أبي جب وأمي نوت. لم أرتكب ما تحرِّمه الآلهة. فلا أنكسرنّ هناك، بل فلأنتصرنّ…”

“… قلبي، أمّاه، قلبي، أمّاه‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! قلبي وجودي على الأرض. فلا يقفنّ شيء لمعارضتي في المحاكمة؛ ولا تكوننّ معارضة ضدي في حضرة الأمراء ذوي السلطان؛ ولا يدبَّرنّ لي شرّ في حضرة الآلهة؛ ولايكوننّ تخلٍّ منك عني في حضرة الإله الأعظم، رب عمنتة. لك التكريم يا قلب أوزيريس – خنت-عمنته! لك التكريم يا مقر شعوري! لك التكريم أيتها الآلهة القاطنة في السحب الإلهية، والمقدسة بفضل صوالجك! قولي كلمات منصفة فيّ لأوزيريس-عوف-آنخ، واجعليه يزهو أمام نحبكة. وأنظر، فمع أني مشدود إلى الأرض، وإلى أعمق أقاليم الأرض القدير، دعني أبقى على الأرض ولا أموت في عمنتة، بل دعني أكون خو هناك إلى أبد الآبدين…”

“… قلبي، أمّاه، قلبي، أمّاه! قلبي الذي به وُلدت! فلا يقفنّ شيء لمعارضتي لدى محاكمتي؛ ولا تكوننّ معارضة ضدي في حضرة الأمراء ذوي السلطان [تشه تشه]؛ ولاتكوننّ معارضة منك في حضرة ذاك الذي يحرس الميزان! أنت كا-ي القاطن في جسمي، الإله خنمو الذي يشد أعضائي بعضها إلى بعض ويقوّمها. فلتخرجنّ إلى موضع السعادة إلى حيث ذهبتم. فلا يتسببنّ الشنيت، الذين يصوغون شروط البشر، في إنتان اسمي. [ليكن مرضياً لنا، وليكن الاستماع مرضياً لنا، وليكن فرح القلب لدى وزن الكلمات, ولا ينطقن بما هو زائف ضدي أمام الإله العظيم، رب عمتنة. حقاً، كم ستكون عظيماً حين تشرق ظافراً!…]”

ونشعر بالدوار، وربما، من خلال واقعنا، بفقدان الصلة، حيث… لابد أن تصدمنا كل تلك الكلمات والعبارات الغريبة التي لم يعد لها اليوم علاقة بما أسميناه “واقعاً”… وتلك الكلمات والعبارات تعبّر قطعاً عن رمزية معينة… قد تستدعي، ربما، بعض التوقف أمام…

رمزية القلب

حيث، كما رأينا، فإن أول ما يواجه المنتقل بنفسه إلى الآخرة، في حضرة الألوهة، بحسب قدماء المصريين، ميزان قلبه… ونسترجع هنا نصاً مقتطفاً أوردناه في مطلع بحثنا يقول على لسان “رب العالمين” أن “… خلقت كل إنسان مساوياً لأخيه، ولم أسمح بالشر، لكن قلوب البشر خالفت إرادتي. وكان هذا ثالث أعمالي. فجعلت قلوبهم لا تفكر بالغرب، وجعلتهم يقدّمون ابتهالاتهم لآلهة المحبة. وكان هذا آخر أعمالي… فلقد خلقت الآلهة من عرقي والبشر من دموعي…”

فنجد أنفسنا… كما في الحياة… أمام ثنائية ظاهرة تتحدث عن الغرب مقابل الشرق… كرمز للموت مقابل الحياة… وللعقل مقابل القلب… إن لم نقل للألوهة وما تتطلب من كدح وألم كمكمِّل لتلك الإنسانية التي تبدو “ساقطة”… وما تتطلب عبر مسيرتها من دموع…

فمن خلال القلب، كرمز للمحبة من جهة، ولما تمثله تلك المحبة من ألوهة من جهة أخرى… يواجه الإنسان مصيره… وذلك أيضاً يبدو ثنائياً… حيث يكون المصير إما الحياة الأبدية وإما الهلاك الأبدي… وما بين هذا وتلك… إما الانتصار من خلال التجربة على ما سيواجهنا في أعماق نفسنا التي تحررت من قيودها… وبالتالي، الترقي إلى مصاف الآلهة… وإما العودة إلى ذلك العالم الحسّي الذي أحببنا ومازال يشدنا… هذا ما يعتقده بعضهم “تقمصاً” للروح وعودة لها إلى التجسد… فنحن، في غالبيتنا، كنا ولم نزل ذلك الإنسان الذي يردد خجلاً بمحضر من الخالق قائلاً:

“… إني مشدود إلى الأرض… دعني أبقى على الأرض ولا أموت في عمنته…”

فهكذا شاءت الألوهة من خلال دموعها… أن يبقى ذلك “الظلوم الجهول” يفضل فناءه على خلودها… وتلك الظاهرة المرعبة من حيث عمقها هي التي جعلتني أتوقف قليلاً، ربما، من أجل مقارنة أخرى عابرة مع…

كتاب آخر

ذلك أنه يوجد لدى شعب آخر، في الطرف الآخر من الكرة الأرضية، قديم وعريق قدم وعراقة قدماء المصريين، كتاب يدعى بلغة أبنائه بالـباردو تودول Bardo Thödol، أو كتاب درب الانعتاق… وقد أسميناه بلغتنا، كما أسمينا كتاب المصريين، كتاب الموتى التيبتي… فكلا الكتابين، كما يبدي ظاهر الأمور، كان يترافق مع تلك الحال التي ندعوها “موتاً”، أليس كذلك؟… ولكن…

إن كانت المقارنة المباشرة بين الكتابين غير ممكنة من حيث الشكل، فإنها تبقى ممكنة جداً من حيث المضمون – وإن تكن صعبة وتتخطى من حيث الإمكان الإطار المرسوم لهذا البحث المتواضع… لذا… سنكتفي هنا بالتلميح إلى بعض ما يشكل العمق المشترك لكلا الكتابين… وهذا العمق المشترك يتركز في نقطتين أساسيتين… حيث…

–                كلا الكتابين يتحدث عن مواجهة حتمية بين النفس الإنسانية المتحررة من عقالات الجسم وبين تلك الآخرة – وإن يكن ذلك على صورة مواجهة أوهام منفلتة من عقالها في الـباردو تودول، أو على صورة مواجهة آلهة العالم الأسفل عند قدماء المصريين…

–                كلا الكتابين يتحدث عن ضرورة انتصار النفس في ذلك الامتحان… عندها تكون قد حققت خلودها… وإلا، إن لم تنتصر، يكون فناؤها أو… عودتها…

مقتطف من الـباردو تودول (الدرس الأخير)

“للأسف… بات مكتوباً عليّ الهيام في الحال الوسيطة حيث الأثر غير الواعي… فلتقدني الآلهة المسالمة والغاضبة على درب تجاوز الخوف والرهبة… ولتدفعني الآلهة المؤنثة الجبارة، أمهات كل المعارف من الخلف… ولتحرر دربي من مخاوف الـباردو… ولتضعني في قلب يقظة البوذا الكاملة والطاهرة…

“مازلت مرتبطاً بمن أحببت، وقد بات مكتوباً عليّ الهيام وحيداً… هاأنذا الآن أواجه الصور الفارغة لمرآة انعكاس… دعني من خلال محبة البوذا أتجاوز مخاوف الـباردو… ومن خلال الأنوار الخمسة الطاهرة المشعة للحكمة الأساسية اجعلني بلا خوف ولا وجل أتعرّف على الحال الوسيطة…

“وإن كان مكتوباً عليّ العذاب بسبب كرماي السيء… فلتجنِّبني الـيي-دَمْ الإلهية من الألم… ولينطلق من أعماق حقيقة الذات الخالدة… متجسدة من أجلي كآلاف الرعود… نغم ذاك التعبير السداسي الخالد…

“أوم مني بدمي هُمْ…”

شرح وابتهال و اعتراف وصلاة

جاء في كتاب لجيرار أونكوس المعروف ببابوس في العلوم السرانية نقلاً عن فابر دوليفيه حول الديانات القديمة إنه…

“… كانت الأديان القديمة عموماً، والديانة المصرية منها تحديداً، مليئة بالأسرار. كانت الصور والرموز تشكل أساس نسيجها اللامتناهي في جماله! كتاب مقدس وضعته سلسلة لم تنقطع من أبناء الآلهة الذين يقرأون في كتاب الطبيعة، ومن خلاله في كتاب الألوهة، ويترجمون تلك اللغة التي لا يمكن فهمها إلى لغة البشر…

“كان الدين يشتمل على كل شيء، [ولكن]…

“لم يكن كل شيء مباحاً… لم تكن الأسرار تُتداوَل بين الجميع لأنه كانت للأسرار حرمتها… كانوا يصونون المعارف الإلهية… [لسبب بسيط جداً ومفهوم جداً، ألاوهو]…

“… أن تلك المعارف كانت موجودة فعلاً!

“… لذا، للحفاظ على تلك الحقيقة، لم يكن من المسموح تداولها بين الجميع…”

ونتابع بعد استعراضنا المتواضع هذا مع قدماء المصريين، ومن خلالهم مع تلك النفس الإنسانية التي بات عليها عند ميزان قلبها أن تواجه الأخطاء التي ارتكبت في الدنيا…

ابتهال

“- لك التكريم يا رب الآلهة المرصعة بالنجوم في عنّو، والكائنات السماوية في خر-آحه؛ أنت الإله أنتي الأمجد بين الآلهة التي في عنّو.”

“- هبني درباً أمرّ فيه بسلام، لأني عادل وصادق؛ لم أنطق بالكذب عن سوء نية، ولا فعلت شيئاً على سبيل الخداع…”.

“- لك التكريم، أيها الجبار في ساعتك، أنت الأمير العظيم الجبار، القاطن في عن-رط-ف، رب الأبد ومبدع الأبدية، أنت سيّد ستن-حنن.”

“- هبني درباً أمرّ فيه بسلام، لأني عادل وصادق؛ لم أنطق بالكذب عن سوء نية، ولا فعلت شيئاً على سبيل الخداع…”.

“- لك التكريم، يا مبدع الآلهة، يا ملك الشمال والجنوب، أيا أوزيريس، المنتصر، حاكم العالم في فصولك الفاتنة، أنت رب العالم السماوي.”

“- هبني درباً أمرّ فيه بسلام، لأني عادل وصادق؛ لم أنطق بالكذب عن سوء نية، ولا فعلت شيئاً على سبيل الخداع…”.

الاعتراف السلبي

  • مرحباً، يا صاحب الخطى الواسعة، أيها الخارج في عنّو (هيليوبوليس): لم أفعل إثماً.
  • مرحباً، يا من يعانقه اللهب، أيها الخارج من خر-أحة: لم أسطُ بعنف.
  • مرحباً أيها الأنف الإلهي (فنطي)، الخارج من خمنّو (هرموبوليس): لم أكن عنيفاً مع أي إنسان.
  • مرحباً، يا آكل الظلال، أيها الخارج من موضع شروق النيل: لم أسرق.
  • مرحباً، نحه-حاو، أيها الخارج من ره-ستو: لم أذبح رجلاً أو امرأة.
  • مرحباً، أيها الإله السَّبُع المثنّى، الخارج من السماء: لم أجعل الكيل خفيفاً.
  • مرحباً، يا ذا العينين الصوانيتين، الخارج من سخم (ليتوبوليس): لم أكن مخاتلاً.
  • مرحباً، أيها اللهب، الخارج و[أنت] تتراجع: لم أختلس ما يخص الآلهة.
  • مرحباً يا ساحق العظام، أيها الخارج من سوتن-حنن (هيراكليوبوليس): لم أفه بباطل.
  • مرحباً، يا مضرم اللهب، أيها الخارج من حة-كا-بتاح (ممفيس): لم أنتزع طعاماً.”

وتتتابع الاعترافات على المنوال نفسه… المعبِّر عن سموّ روحي غير متناهٍ في رقّته…

“… لم أفه بكلمات سوء… لم أعتد على إنسان… لم أقتل البهائم المخصصة للآلهة… لم أكن فضولياً ولم أتسبب بأذى… لم أفه بكلام ضد أي إنسان… لم أذعن لغضب يخصني بلاسبب… لم أشوِّه سمعة زوج أي رجل… لم ارتكب خطيئة بحق الطهارة… لم أوقع الخوف في قلب أي إنسان… لم أنتهك المواسم المقدسة… لم أكن رجل غضب… لم أصمّ أذني عن كلمات الحق والصدق… لم أحرض على النزاع… لم أُبك إنساناً… لم أرتكب الفواحش… لم آكل قلبي… لم أتصرف بعنف… لم أشتم إنساناً… لم أتسرع في الحكم… لم آخذ بثأري من الإله… لم أكن خبيثاً ولم أصنع شراً… لم أنطق بلعنات ضد الملك… لم ألوث الماء… لم أجعل صوتي متعجرفاً… لم ألعن الإله… لم أتصرف بوقاحة… لم أسع إلى الامتيازات… لم أوسع ثروتي بما لا يخصني… لم أزدرِ إله مدينتي…”

ونعجب… ومثلنا يعجب المؤرخون الذين، إذ يرجعون إلى ما يعلمون عن مصر القديمة، يدعون الباب مفتوحاً لاحتمالات لا يعلمون مداها… فما بين أيدينا يعبِّر حتماً عن رقي روحي وحضاري لم يأتي من همجية عصور حجرية… وتتدخل الأسطورة مجدداً لتعيدنا إلى…

هرمس المعظّم ثلاثاً

حول هذا الموضوع يتحدث غ. قولبقجي: “كل شعب فهو يتلقى رسالة تاريخية يؤديها – كبيرة كانت أم صغيرة –؛ وهذه المهمة لايقوم بها وحده، بتضافر طوارئ معينة، تقوده المصادفة وغرائزه أو “لاوعيه”: إنه يتلقى تأهيل وتعليم وتوجيه مرشديه الروحيين، بقصد القيام برسالته؛ وهذا العمل الطويل النفَس لا يفلح دوماً… وحالة مصر القديمة مفيدة بخاصة لأن المرء يمكنه أن يدرس فيها مسعى للتوجيه أفلح، أو كاد…”

ويتابع غ. قولبقجي قائلاً: “إن شخص معلِّم (مرشد، مسارِر) الشعب المصري معروف – استناداً إلى الأساطير وإلى معطيات المنقول؛ فاسمه المستعار، المهلَّن فيما بعد (يذكره أفلاطون في كتابيه فيذروس وفيليبوس)، كان هرمس تريسمجسطوس (أو “المعظَّم ثلاثاً”).” (ص 39) – أو “المثلث بالحكم”، كما جاء ذكره في المصادر العربية…

فهرمس “المعظَّم ثلاثاً” هذا، كما أسماه الإغريق – وهو أيضاً بحسب الأسطورة اليونانية رمز عطارد – كان يُعرف عند قدماء المصريين بـ”توت”، إله القمر وصاحب علوم الفلك والرياضيات والحكمة… وهو الذي كان يدعى “أخنوخ” وفق الميثولوجيا العبرانية والمسيحية، والنبي “إدريس” عند العرب…

عنه “… يحكي القفطي واليعقوبي وابن أبي أصيبعة أنه عاش في مصر قبل الطوفان، وأنه جاب أقطار الأرض باحثاً عن الحكمة حتى رفعه الله إليه…” قيل عنه إنه كان “أول من تكلم في الجواهر العلوية وحركة الأفلاك…” (عفيفي، ج 2، ص 45) وأيضاً…

عنه تكلم رمزاً الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في فصوص الحكم، ناسباً إليه تلك “الحكمة القدّوسية” المرتبطة بالتنزيه الإلهي… أفليس إدريس هو ذلك المنزَّه من خلال ذوقه، فرفعته الألوهة لقدسيته إلى علوِّها… إذا…

إدريس، أو لنقل هنا، هرمس… كان المعلم الأسطوري لمصر القديمة… وأبا معارفها الروحية السرّانية…

فلنتخيل أمامنا شعباً غارقاً من خلال واقعه المادي بالطين… وقد بات من خلال المعلِّم يحلق مع الآلهة…

يقال عن هرمس إنه كان يكلِّم المصري قائلاً:

“… إن كنت تريد أن تحيا مع الآلهة… فكن طاهراً وكاملاً كما هي… و…

“… إن كنت راغباً في أن تصير إلهاً… فكن جديراً بذلك… وليكن مسلكك على هذه الأرض بحسب شريعتها… ولتتبع ما تكتبه لك السموات… فلا تخجل الآلهة من حضرتك… ويصير بوسعك مخاطبتها مخاطبة الندّ…”

فتعاليم هرمس من خلال بنيانه كانت، كما يقال، تربط النظام الأخلاقي للإنسان بالنظام الكوني… إن لم نقل بالألوهة… وجسرنا إلى تلك الألوهة كان بحسب المصريين القدماء… من خلال ما سبق وأسميناه بـ…

الحال الوسطى…

الذي تقف فيه تلك النفس، وقد تم “وزن قلبها” وتجاوزت محنتها، مواجِهة أوزيريس… وقد أصبحت… هي هو… وهو هي… متكلمة بلسانه:

“… أنا الطفل الذي يخطو على طريق الأمس… [أنا] الحاضر لأمم وشعوب لا تُعدّ ولا تحصى… أنا الذي يحميكم ألوف ألوف السنين… سواء كنتم من سكان السموات، أو الأرض، أو الجنوب، أو الشمال، أو الشرق، أو الغرب، فمخالفتي في أجسادكم… أنا الذي شكّل كيانه في عينه ولن يموت من جديد… رهبتي في أجسادكم، أما صوري ففي مسكني… أنا الذي لا يمكن أن يعرف، ووجوه الحمر موجهة إليّ… أنا السافر… ولكن الفصل الذي خلق فيه الإله السموات من أجلي ووسّع حدود الأرض وجعل ذريتها عظيمة فلا يمكن أن يُعرف، لكنهم يفشلون ولا يتحدّون من جديد… اسمي يقصي نفسه من كل الأشياء [ومن] الشر العظيم [الذي في] أفواه [البشر] من خلال الخطبة التي ألقيها عليكم… أنا الذي يشرق ويسطع… الجدار الذي يبرز من جدار… واحد أحد مولود من واحد أحد…”

ونعود إلى غ. قولبقجي الذي يقول في المقدمة الرائعة التي عقدها على كتاب الموتى: “… إن قدماء المصريين كانوا يعتقدون بأن الإنسان عندما “يولد” هنا فهو إنما “يموت” عن العالم العلوي. وبالتالي فإن الموت الأرضي هو ولادة جديدة لتلك النفس التي استرجعت شباب ذاتها العميقة. فيتحول ذلك الذي مات هنا إلى “مولود جديد” (ونستذكر هنا ما كان يقول هيراقليطس بأن البشر يحيون بموتهم ويموتون في حياتهم). فـ…

“هوذا الإنسان الذي عبر تلك العتبة قد أضحى وسط ذلك العالم الذي دعاه قدماء المصريين بالإمكانية المطلقة، حيث لاشيء محدد ولاشيء ثابت ومستقر… حيث تحكم كل شيء تلك الحركة الأزلية التي يشبه ظاهرها ذلك القناع الرمزي (كأقنعة آلهة المصريين)…”

إنه عتبة ما نفترضه “كموناً مطلقاً”… ذلك الذي يحيا به تلك الروح التي أصبحت على تماس بباريها… تشعر بكمونه الذي لم تعه إبان حياتها الأرضية، حيث… كان مدفوناً، ربما، في قلب ذلك العمق الإنساني الذي دعاه عالم النفس كارل يونغ ذات يوم بـ”الخافية الجامعة” Collective Unconscious…

فبعد الموت، إن لم نقل بعد مفارقة الجسم الأرضي… تتفجر إمكانات تلك الروح التي كانت تحدها حياتنا المادية… وتمر وسط سلسلة تلك التحولات، إن لم نقل تلك الاختبارات التي ما كان بالإمكان اختبارها ونحن في الدنيا…

فصل صدّ التمساح القادم لاغتصاب التعويذة من نو

“إرجع، عُدْ، ارجع أيها العفريت التمساح سوي؛ لن تتقدم نحوي فإني أحيا بفضل الكلمات السحرية التي بجانبي… للأرض سلطان على فصولها، وللكلمة السحرية سلطان على ما تمتلك، فليكن فيك سلطان على الكلمة السحرية التي هناك. أسناني الأمامية كسكاكين الصوان، وأسناني الخلفية كولاية طوتف… لن تغتصبها أيها التمساح الذي يحيا بواسطة الكلمات السحرية…”

“أنا أمير الحقل، أنا حتى أنا، أوزيريس الذي حبس أباه جب وأمه نوت يوم المجزرة العظيمة. أبي جب وأمي نوت. أنا هوروس بكر أبناء رآ المتوَّج. وأنا، حتى أنا، أوزيريس الأمير الذي يدخل ويعلن القرابين المدوَّنة… أجول في السماء، في الأركان الأربعة فيها، أمد يدي وأقبض على نسائم الجنوب (التي) على شعره. أعطني هواء بين الكائنات الموقرة وبين من يأكلون الخبز.”

ونتوقف هنا قليلاً، حيث من المثير للانتباه، ربما، والداعي للتأمل ذلك التناغم بين تلك الفقرة التي سبق وأوردنا من كتاب الموتى لقدماء المصريين ومن الـباردو تودول التيبتي عموماً… وتلك الفقرة التي أوردنا منه خصوصاً… فالـباردو تودول يتحدث، بلغة أقرب إلى لساننا الحالي، عن ملاحقة الأوهام الناجمة عن الحياة الأرضية لنفس الميت وهي على أعتاب “الحال الوسطى”… كما يتحدث كتاب الموتى المصري عن مواجهة تلك النفس وهي على أعتاب “كمونها المطلق” لصورة ذلك التمساح السعي لاغتصاب تعويذتها… وما “الكمون المطلق” إلا تلك “الحال الوسطى” التي سبق أن تكلمنا عليها… ونكتفي هنا بهذا القدر، مشيرين إلى أن…

السنة عند قدماء المصريين تقول أن “الفقيد”، إذا عرف هذا الفصل، فله أن “يخرج في وضح النهار”، وينهض للسير على الأرض بين الأحياء، ولن يفشل وينتهي أبداً… ونتابع، في عالم نشير إلى أن للقلب فيه مكان الصدارة، إلى جانب التواضع والخشوع لما تمليه الحضرة الإلهية… وتلك قد تكون في “قاعة مآت المثناة”، أي قاعة التجليين الإلهيين المؤنثين إيزيس ونفتيس اللتين ترمزان إلى الحق والصدق…

قلت “ترمزان”… من خلال العقل… العقل الذي يستصرخنا مجدداً للتوقف و… من خلال القلب والحلم للـ…

عودة إلى سِت

الذي عاد إلى أصله ولم يعد شيطاناً… ليفسر لنا… مجمل ما أوردنا عن ذاك العالم الذي قضى اليوم، من خلالنا، ولم يعد…

وهو عالم قد يبدو فعلاً متجاوزاً لأي واقع… عالم أقنعة وأسماء تبدو اليوم في منتهى الغرابة، حيث…

هي ذي النفس قد تحررت من ذلك الجسم الأرضي، محافظة على تماسكها، وهي في “حالها الوسطى”، عبر كيان آخر، أثيري etheric، أو بالأصح “نجمي” astral، كان قدماء المصريين يسمونه الـكا… وهو كيان مشابه من كل وجه للجسم الجرمي الأرضي ويحل بعد الموت مكانه أيضاً، كذلك محل الأنا الذهنية أو الـنوخ بحسب قدماء المصريين… ولكن… إذا كانت الأنا ترتكز إبان حياتنا الأرضية الدنيا على ذلك الجسم الأرضي الذي قضى، وتسعى إبانها إلى ذاتنا العميقة، فإن الـكا الذي أضحى يحافظ على توازن الذات بعد الموت الأرضي يسعى نحو الأعالي، أو لنقل الكون الأكبر… ونستذكر متعجبين التوازي الصارخ بين الـكا المصرية وما يدعوه المنقول الهندي بالـبرآنا شريرا، أو الجسم الحيوي… وأيضاً…

في قلب ذلك الـكا يكمن ما يمكن أن نسميه بالـ”روح”، أو الـإيب، المقترنة مع قلب المرء، أو ما كان قدماء المصريين يسمونه الـبا. وأيضاً… خلف الـكا يقف، خائفاً مرتعداً ذلك “الظل” (التعبير لكارل يونغ) الذي كان قدماء المصريين يسمونه الـخَيْبيت، حيث تتجمع بعد الموت تلك الغرائز الحيوانية والمساوئ التي كان يتصف بها المتوفى… ونسجل هنا أيضاً أن ذلك “الظل” (“الشبح”، أو الـخَيْبيت) هو عينه الـسوكشما شريرا sukshma-shariraعند الهنود…

هذا، وقد كان قدماء المصريين يرمزون للـبا بعصفور ذي رأس بشري، مما قد يعني أن تلك الروح العليا التي تقف متوسطة بين الـكا، أو الذات عبر جسمها النجمي، وبين الـخَيْبيت، أو لنقل “شبحها” وقبائحها إبان حياتها الأرضية، والتي تتصف بالقدرة على التحليل… هي التي باتت مرشحة للفناء أو الانعدام، إذا سيطرت عليها الـخَيْبيت، أو… للخلود، إذا تطهرت من خلال أوزيريس وأصبحت خو، أو لنقل نفساً مطهَّرة…

ونسجل هنا أيضاً – لطرافة “المصادفة” – أن تلك الـخو أو النفس الطاهرة، بحسب قدماء المصريين، هي عينها ما يسميه الهنود مَنَس…

وأخيراً، حين يبارك أوزيريس ويكرس في قلبه تلك النفس الطاهرة… فإنها تتحول إلى جسم ممجَّد، أو ساهو، بحسب قدماء المصريين… وهذا عينه ما يطلق عليه الهنود اسم بودّهي… ونسجل هنا أيضاً، لمن يهمه الأمر، أن ذلك الجسم الممجَّد، أو لنقل تلك النفس التي استغرقت في عالم الألوهة هي عينها أيضاً ما كان الكيميائيون الأقدمون يرمزون إليه بـ”حجر الفلاسفة”… أو لنقل، تلك المادة التي عادت أخيراً إلى أصلها… وأمست “عدماً” من جديد…

فصل في جعل الـخو كاملاً

“رآ يشرق في أفقه، ومحفل آلهته يتبعه. الإله يخرج من مساكنه الخفية والطعام يتساقط من الأفق الشرقي للسماء بأمر من الإلهة نوت التي تمهد دروب رآ فيطوف عليها الأمير فوراً.

“ارتفع إذن، يا رآ، أيها القاطن في مقامك الإلهي المقدس. سحب الرياح في نفسك، فتنشق ريح الشمال…

“أنت صورة الذهب تلك، وتمتلك بهاء قرص الشمس. رهيب حين تأتي متجدداً كل يوم.

“إيه فالأفق يبتهج، وهتافات الفرح تتصاعد من الصواري، وحين يرى الآلهة القاطنون في السموات الأوزيريس نو، ناظر دار ناظر الختم، الظافر، فإنهم يرفعون إليه تسبيحات كتلك التي تُرفع إلى رآ حيث إنها تليق به.

“أوزيريس نو، ناظر دار ناظر الختم، الظافر، أمير إله باحث عن تاج أررة رآ. وهو الواحد الأحد، قوي في حسن طالعه. في ذلك الجسم السامي، جسم الكائنات الإلهية في حضرة رآ.

“إلى أوزيريس نو، القوي على الأرض وفي العالم الأسفل، الأوزيريس نو القوي كما رآ كل يوم؛ الأوزيريس نو لن يذوي ولن يستلقي بلاحراك في هذه الأرض إلى الأبد. بجماله المثنى سيرى بكلتا عينيه معاً، وسيسمع بأذنيه معاً، حقاً وصدقاً، حقاً وصدقاً…”

فصل آخر في جعل الـخو كاملاً

“أنظري الآن أيتها النجوم الساطعة في عنّو (هيليوبوليس). أنظروا أيها الناس في خر-أحة. لقد ولد الإله واكتملت حباله. وتشبث بقوة بالأداة التي يشق بها دربه. فأوزيريس نو قوي معها لتوجيه أداة الآلهة. الأوزيريس نو قد طلق بها سراح زورق الشمس. وهو يخرج إلى السماء. يطوف مبحراً في السماء. يسافر في مركبه إلى نوت ويرتحل مع رآ…

“كوني معبودة أيتها النفس الإلهية، يا أيتها الموهوبة أكثر من آلهة الجنوب والشمال في بهائها! انظري وانعمي على الأوزيريس نو بعظمة كعظمتك في السماء بين الآلهة؛ خلِّصيه من كل شر ومكروه قد يصيبه من العفريت، وشدي أزر قلبه. وأنعمي بالمزيد، لكي يكون الأوزيريس نو أقوى من الآلهة قاطبة، ومن جميع الـخو، ومن جميع الموتى.

“الأوزيريس قوي وهو ربّ القدرات. الأوزيريس نو هو ربّ الحق والصدق أساس الإلهة أوتشيت. القوة التي تحمي الأوزيريس نو هي القوة التي تحمي الإله رآ في السماء…”

ويتملكنا الخشوع، ونشعر من خلال ذلك الابتهال وكأننا نشارك أسلافنا من أبناء مصر القديمة الصلاة لألوهة كانت، ولم تزل، هي هي منذ الأزل… وإن تغيرت تجلياتها مع العصور ومع البشر…

ومن خلال ذلك الخشوع… ومن خلال بعض الحزن الذي يتملكنا… وقبل إنهاء هذه الدراسة المتواضعة… وقبل أن أودع قارئي… ربما كان من الواجب أن نحاول، من خلال ما سمعنا، طرح…

بعض التساؤلات

التي قد لا نجيب عليها…

وأول هذه التساؤلات هو ربما ذلك الذي على كل شفة… يقول: هل كانت ديانة مصر القديمة ديانة وثنية، أم ديانة توحيد، تدعو لإله واحد أحد؟…

ممن خلال كل ما سبق وسمعنا، ومن خلال مستويات وعينا وإدراكنا بوسعنا أن نجيب بما نشاء…

من حيث الظاهر… ومن خلال تعددية عمن ورآ وأوزيريس وإيزيس وست ونفتيس وهوروس وأنوبيس… بوسع من يشاء أن يرميها جازماً بالـ”شرك”، كونها ديانة أوثان… وآلهة عديدة…

لكن، إن كان الأمر كذلك… لماذا يا ترى نرى قدماء المصريين يدعون في صلواتهم – التي استمعنا إلى أضمومة منها مستقاة من كتاب الموتى – المرفوعة إلى عمن-رآ إلههم “… سيد السماء… سيد الأرض… خالق المقيمين في الأعالي وخالق القاطنين في الأعماق… الإله الواحد الذي ولد في بدء الزمان… خالق الأرض ومكوِّن الإنسان…”

ثم، لم يصير رآ تارة ممثَّلاً بأوزيريس وطوراً بسواه؟…

لسنا ندري، وإن كان ست يقول لنا… إن تلك الديانة، التي هي ديانة توحيد من حيث الجوهر، كانت تقبل بتعدد التجليات الإلهية… فما تلك الإلهة التي سمعنا أسماءها سوى تجليات لذلك الكلّ الواحد الأحد… ولكن، ما الذي حصل من إثم؟… ما الذي أدى إلى انهيار تلك الديانة القديمة وزوالها؟…

بحسب الأسطورة التي وصلتنا من الإغريق، نرى وكأن هرمس كان قد تنبأ في حينه بانهيار ما بناه على أرض مصر… يقول:

“أتراك تجهل يا أسكلبيوس أن مصر هي مرآة السماء وأنها الانعكاس السفلي لكل ما تقرره القوى السماوية؟… ولكن، يجب أن تعلم أنه، على الرغم من هذا، سوف يأتي يوم يبدو فيه وكأن المصريين قد اتبعوا بكل تقوى، ولكن سدى، ديانات الآلهة… وأن كل تضرعاتهم بقيت عقيمة لم يستجَب لها… حيث ستتخلى الآلهة عن مصر وستعود إلى السماء تاركة خلفها مسكنها القديم، أرملة بلا دين، محرومة من الوجود الإلهي. عندئذٍ، ستتحول هذه الأرض المقدسة إلى مقابر تعجّ بالأموات. مصر، يا مصر! لن يبقى من دينك سوى نصوص غامضة لا تؤمن بها أجيالك القادمة. لن يبقى سوى كلمات منقوشة على الحجر و… تتحدث عن شيء كان اسمه تقوى…”

ونحن نعلم اليوم – والله أعلم – من خلال مخطوط مصري قديم يدعى بـ”مخطوط لايدي”، نشره أ. هـ. جاردنر عام 1909، أن ثمة شيء ما حصل في حينه… وكانت بداية نهاية تلك الحضارة العظيمة…

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى