حضارات قديمة و الماسونيةمقالات متنوعة

مقارنة فكرة الخلود عند الفراعنة وعند السومريين

أولاُ الخلود والقيام أم الموت والحياة المتجددة عند الفراعنة :

أظهرت معتقدات مصر القديمة كثيراً من المعالم الأولى للإيمان والفلسفة والحكمة عبر التاريخ كما أسهمت في تشكيل المجتمع ثقافياً وسياسياً وكانت أول من كرس أفكار الميتافيزيقيا وفلسفة الوجود قبل اليونان وحضارتها إضافةً إلى ذلك ظهرت نزعة الإنسان في الفردية والملكية سواء تجاه المادة والسلطة أو تجاه القيم الأخلاقية والأفكار والحقوق المدنية وقد شكّلت معتقدات المصريين القدماء هذه معالم الحضارات الأولى وكشفت أنّ الإنسان رغم سعيه الدائم حتى الآن لفهم هذا الوجود إلا أنّه يتصارع عليه مع الآخرين الذين سعوا جميعاً من أجل الخلود في الحياة وبعد الموت بوصفهم ملاكين لهذا الوجود حتى لو لم يفهموه .

شكّلت المعتقدات المصرية القديمة أول محاولة لفهم تكوين الوجود والكون فظهرت الحكمة ونشأت فكرة الخلود ، الفراعنة الذين ظهروا عام ٣٠٥٠ قبل الميلاد وبقوا حتى ٦٣٩ ميلادي تقريباً بنوا حضارةً فريدةً من نوعها في نواح عديدة علمية واجتماعية وثقافية وسياسية ارتبطت جميعها بالمعتقدات القديمة التي كانت أساس كلّ فعلٍ في الحياة والمؤشر على خلودهم بعد الموت .

أهرامات مصر الثلاثة الكبرى تشكّل حتى اليوم صروحاً معمارية مثّلت بالإضافة لما تحمله من أسرار معمارية مذهلة محاولة بشرية جدية من أجل الاحتفاء بالموت في قلب الحياة بوصفه بوابةً للخلود وليس مجرد نهاية عدمية لا عودة منها هذه النقطة الأساسية في العقيدة المصرية هي التي ساعدت على كتابة تاريخ المصريين القدماء وتطور حضارتهم وتنوع نشاطاتهم وتقدم علومهم

فلولا اهتمام المصريين القدماء بآخرتهم وخلودهم لما وصلنا شيء من تاريخهم أبداً ولم يكونوا ليدونوا ما دونوه ويمكن القول باختصار إنّ معتقدات المصريين القدماء اعتمدت على فكرة الخلود التي مثلت لديهم الفرق بين الإنسان والحيوان وكرّست الشعور بالحرية والتميّز الذي لا يوجد إلا عند البشر الذين يمتلكون وحدهم المشاعر والوعي .

المعتقدات الفرعونية بدأت بآلهةٍ قديمة متعددة مثّلت المدن الفرعونية والأقاليم حيث خاض سكان تلك الأقاليم الصراعات لأجل إثبات سيطرة إله كلّ منهم على الأرض كما في حالة الإله حور إقليم شمال الدلتا والإله ست إقليم جنوب الدلتا

إلا أنّ هذه الصراعات التي تنوعت بين الأقاليم لم تدم بل اندثرت عام ٣٠٠٠ قبل الميلاد لصالح إله توحيدي رسمي هو رع  إله الشمس الذي جاء باسم دولةٍ كبرى موحَّدة وذلك على حساب الآلهة القديمة التي قادت إلى الصراعات ولم تتمكن من تقديم تفسيرٍ واضحٍ للكون والوجود لكنّ رع  إله النار والنور والوجود الذي عدّه الكهنة القدماء من الفراعنة أصل الوجود عاد ليشهد مقاومةً مفادها أنّ نون هو الإله صانع الوجود وأنّ أصل كلّ شيء أتى من الماء

عموما تعد المعتقدات المصرية القديمة أول محاولةٍ لفهم تكوين الوجود والكون ومثّل تعدّد الآلهة فيها انعكاسات تلك المحاولات في فهم الوجود ولم يكن الهدف معرفة الإله فقط بل فهم سبب خلقه لهذا الكون ومن هنا ارتبطت المعتقدات بالدين والحكمة وظهرت بوادر الفلسفة البشرية وكذلك الأخلاق .

الموت شكّل أيضاً أول محاور هذه الفلسفة المنبثقة عن الدين وأخلاقياته ففهم الوجود بالنسبة إلى الفراعنة كان يعني القدرة على تعيين مكان الخلود والطريقة التي يجب أن يعيش المرء ويموت فيها من أجل أن يصبح خالداً وقد قدم الفراعنة رؤى عديدة منها أنّ الحياة النهائية الخالدة تكون تحت الأرض أو بصحبة أحد الآلهة في السماء أو الماء مثلاً لكنّ النظرية التي سادت في هذا الشأن كانت أنّ الحياة تستمر في أضرحة الموتى التي تضمّ كلّ ما يحبّونه ويهتمون به في حياتهم حيث يبقون في قبورهم إلى أن تتاح لهم فرصة الخروج إلى الحياة من جديد .

فكرة الخلود هذه يرجعها المؤرخ ول ديورانت في الجزء الأول من مجموعة قصة الحضارة إلى طبيعة الأرض وإلى الفلاح الذي كان يزرع بذرة النبات فتنمو من تحت التراب وترتفع في الحياة ومن ثم تتكرر هذه الحياة المتجددة لذلك فإنّ فكرة الموت في حياةٍ تتجدد دوماً كانت تعدّ غير منطقية بالنسبة إلى الفراعنة وبالتالي تمحور الدين بالتحديد حول فكرة الخلود والقيام .

ولعلّ أكثر من تلقّف هذه الفكرة كانوا ملوك الأسر الحاكمة المصرية الذين بنوا صروح موتهم العظيمة كالأهرامات ووضعوا فيها كلّ ما يخصّ الشمس والجمال والبراعة العلمية والحياة من أجل أن يبقوا مستعدين خلال موتهم للقيام ،  بل وصارت التعاليم تمجدهم في كتاب الموتى المصري القديم على أنّهم لا يزولون ولا تزول صروحهم ومن أجل ذلك ازدهر تحنيط الموتى أملاً في عودة ما رآه الفراعنة القوة السرية الشاردة من الجسد وهي مثيلةٌ للروح تقريباً ويمكن لها أن تعود في أيّة لحظة لتحتلّ مكانها في الأجساد المحنطة فتعيدها إلى الحياة

الديانة الفرعونية ومعتقداتها الإيمانية المختلفة ظلت حاضرةً بقوة حتى نهاية عهد المملكة المصرية القديمة التي أفرزت طبقةً حاكمة تتمتع بما يمكن تسميتها أسرار الخلود والقدرة المادية والسلطوية التي تمكنها من التحضير لهذا الخلود .

ثانياً الخلود عبر المعرفة – الولادة والتكاثر  – الإسم والعمل الصالح عند السومريين :

في العصر الاسطوري السومري قبل الطوفان والعصر البطولي السومري بعد الطوفان مباشرة نلمح مجموعة من الملوك والحكماء والابطال الذين سعوا إلى الخلود وحاولوا نيله ومن أطرف ما ينبئنا عنه تراث وادي الرافدين هذا التدرج الواضح والمنطقي في محاولات نيل الخلود.

ففي العصر الاسطوري لما قبل الطوفان نعثر على ثلاث شخصيات بشرية اساسية حاولت نيل الخلود هي على التوالي (آداباً ، اينميدر – أنا ، أوتونابشتم) تكاد شخصية ادابا تطابق شخصية آدم وهناك في اسطورته ما يدل على هذا التطابق ان صعود اداباً إلى اله السماء آنو وقيام ثلاثة آلهة هم (ايا، تموز، كزيرا) بغشه كي لا يتناول شراباً وطعام الخلود فيها دلالة كافية على نزوع الانسان الاول نحو الخلود ورفض الآلهة هذا المبدأ وقد فشل اداباً في الحصول على الخلود

الشخصية الثانية الباحثة عن الخلود هي شخصية الملك السومري اينميدر – أنّا ملك سبار الذي استدعي إلى حضرة الآلهة ولكن هذا لا يعني أنه نال الخلود وانما كان استدعاؤه لتسليمه اسرار فن كهانة الفأل او العرافة حيث انه كان واحداً من بين سبعة ملوكٍ قدامى ذكر عنهم بأنهم تسلموا سر آنو لوح الآلهة أو اسرار السماء والأرض وانه علّمها إلى ابنه وبذلك نرى ان البديل عن الخلود عند هذا الملك كان المعرفة اما الملك الثالث الذي لا يشوب خلوده شيء فهو اوتو نابشتم  وهو آخر الملوك الاسطوريين قبل الطوفان وتوضح لنا ملحمة كَلكَامش حصول هذا الملك على الخلود وعيشه بعيداً عن الانسان في فم الأنهار عند الجنة الالهية دلمون وهو الانسان الوحيد الذي نال الخلود لكن اوتونابشتم عندما حصل على الخلود لم يعد بامكانه أن يعيش مع الناس او يحكمهم بل أصبح بعيداً قرب مركز الخلود الإلهي يعيش وحدةً قاسية بعيدة فلم يصل اليه مغامر من البشر سوى كَلكَامش بعد أهوال ومصاعب كبيرة ووجده ساكناً لا حول له ولا قوة سوى ذلك الأبد الذي لا يعرف ماذا يفعل به .

اما في عصر البطولة السومري بعد الطوفان مباشرة فنرى في سلالة كيش وهي أول سلالة بعد الطوفان مغامرة البحث عن الخلود عند ايتانا الذي يحل مشكلة الخلود عن طريق التكاثر فهو يصعد إلى السماء ويجلب نبات الولادة من الإله آنو ويتعالج به فينتهي عقمه ويلدُ ولداً وهنا يظهر الحلّ العقلاني الثاني البديل عن الخلود فالخلود يستمر في الابناء والتكاثر لانه سيحمل ذرية الانسان إلى المستقبل لكن جلجامش يعطي حلاً أرقى وأشد عقلانية وقوةً وهو بقاء الذكر عن طريق العمل الصالح بعد ان يثبت في ملحمته استحالة حصول الانسان مهما كان بطلاً او فيه مسّ إلهي على الخلود الجسدي وان الخلود الحقيقي يكمن في العمل الذي يعلي ذكر الانسان واسمه بين الناس عبر الإسم و الاعمال الصالحة.

ثالثاً مقارنة بسيطة :

في مقارنةٍ بسيطة بين التصورات والحلول التي قدمتها الحضارتان السومرية والفرعونية نجد ان الحضارة الفرعونية قدمت حلولاً اكثر شعرية وأقل واقعية لقضيتي حياة ما بعد الموت والخلود فقد حفل التراث الفرعوني باهتمام قلّ نظيره لحياة ما بعد الموت للملوك او لعامة الناس فهي حياة مكملة للحياة الدنيا وليس هناك إلا حاجز الموت الرقيق الذي يعني ببساطة تعرض الانسان لمحاكمة شاملةٍ لأعماله يقوم بها اوزوريس وحاشيته فأما أعمال سيئة يعاقب عليها بالتدمير من قبل مردة العالم الأسفل او أعمال جيدة يكافأ عليها بالعيش في فردوس العالم الأسفل مع أرواح الخيرين أما الملوك فلهم فردوس سماوي شمسي يعيشون مع الآلهة مباشرة بعد الموت ولذلك لم يحفل التراث الفرعوني بمشكلة البحث عن الخلود لأن الخلود كان مضموناً للملوك والابطال والناس الأخيار فلماذا يبحث عنه الناس قبل حلول الموت وقد انتقلت تأثيرات هذا التراث إلى الأديان السماوية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلامية بشكل واضح اكثر من التراث السومري الذي كانت حلوله علمانية بعض الشيء من فشل بتحقيق الخلود او خلود عن طريق نيل المعرفة أو عن طريق التكاثر والولادة وأخيرا الخلود بالإسم وعن طريق العمل الصالح  .

القلم الحديدي 11/ 9/ 2020

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى