طائر الفينيق
Written by
لم ينل أي طائر شهرة أكثر منه، على الرغم من استحالة رؤيته. إنه طائر الفينيق الأسطوري الذي احتضنته الإنسانية وخلدته، وأفسحت له مكانا حميما في وجدانها على مر العصور. هذه الأسطورة الخالدة أصبحت مع مرور الزمن لسان حال الإنسان، إلهامه الذي يحثه على النهوض ويدفع به إلى الأمام، إلى المستحيل.
وهكذا أصبح طائر الفينيق الذي يخرج من رماد الحريق، صورة تستمد منها البشرية دروساً في التحدي والتجدد والاندفاع، ورمزاً تتعلق به، وتميمة ترد عنها السوء وتمنحها قوة أسطورية لا حدود لها. فكيف دخل طائر الفينيق إلى حياتنا ونسج معنا هذه المودة النادرة؟
تتعد الروايات حول ولادة هذه الأسطورة، ويرجعها البعض إلى الفينيقيين، فيما يخص البعض الآخر شعوبا أخرى بها مثل الإغريق أو االفراعنة أو الصينيين.
منشأ الأسطورة الفرعوني يشير إلى أن طائر الفينيق المقدس ظهر في “مدينة الشمس” في مصر القديمة قرب القاهرة، رمزاً للشمس التي تغرب في المساء وتبزغ مجدداً في الصباح، وللروح الخالدة في رحلتها الأبدية بعد الموت.
ويرجح باحثون أن تكون المخيلة البشرية قد استلهمت هذه الأسطورة من سلوك طيور حقيقية مثل تلك التي تسمح للنمل باعتلاء ريشها لتخليصها من الطفيليات أو الأخرى التي تفقد ريشها تماما ثم ينمو لها ريش من جديد.
ويمكن القول إن الشاعر الإغريقي هسيود أول من ذكر الفينيق باعتباره طائرا يشتهر بطول العمر، إلا أن هيرودوت تفرد بترك وصف متكامل له، أصبح لاحقا جزءا رئيسا من تفاصيل هذه الأسطورة، حيث ذكر أن المصريين رأوا في الفينيق طائراً مقدساً، معترفا بأنه لم يره بأم عينيه، لكنه شاهده في لوحة جدارية في معبد الشمس، مضيفاً أن الفينيق يشبه النسر بريش أحمر وذهبي، وأنه يطير إلى مصر قادما من شبه الجزيرة العربية مرة كل 500 عام حاملا بين مخالبه جثة محنطة لسلفه لدفنها في معبد الشمس.
أما أول وصف لخلود طائر الفينيق، فنجده في القرن الأول الميلادي لدى المؤرخ الروماني الشهير بليني الأكبر في قوله إن طائر الفينيق يعيش في شبه الجزيرة العربية 540 عاما وبعد ذلك يموت في عشه وتنبعث منه رائحة عطرة، ومن نخاع عظامه تخرج دودة صغيرة يظهر منها طائر فينيق جديد.
وهكذا استكمل الفينيق سيرته، وبدا في التاريخ الإنساني طائراً يعمّر طويلاً، وهو يظهر للناس فقط قبل وقت قليل من موته، وبعد ذلك يولد من جديد، ويبقى إلى الأبد لصيقا بالشمس.
تجلت هذه الأسطورة في نفس الفترة تقريبا في تحولات أوفيد (ببليوس أوفيديوس ناسو) الذي استكمل النسخة الرومانية لهذه الأسطورة، جاعلا من الفينيق طائرا خالدا تتكون حياته من 500 دورة متعاقبة، بنهاية كل واحدة منها يبني الفينيق عشا على رؤوس أشجار النخيل من نباتات المر والقرفة والتوابل الأخرى، ويشتعل العش بفعل أشعة الشمس ويحترق الفينيق في النار، ومن رماده يخرج آخر صغير يعيش 500 عام لاحقة، وحين يشتد عوده يحمل رماد أجداده إلى معبد مدينة الشمس.
ازداد ذكر طائر الفينيق في القرون اللاحقة بشكل كبير، ووجد ذلك تجلياته في مختلف الثقافات والحضارات، فتحول في التعاليم المسيحية إلى رمز لخلود الروح ولخلود المحبة وغداً رمزاً ملكيا في عصر النهضة بأيدي فناني تلك الحقبة، ثم استشهد به دانتي في الكوميديا الإلهية وضمّنه وليم شكسبير أكثر من عمل مسرحي، فاكتسب هذا الطائر حياة جديدة وخلوداً حقيقياً.
على هذا المنوال ظل طائر الفينيق رفيقاً أثيراً للإنسان لعصور طويلة، وهو باق ليس فقط في التاريخ، بل وفي الوجدان الذي ارتبط بحبل سري لا ينقطع بهذا الطائر السحري الذي يغالب الموت ويخرج حيا من الرماد.