لاشك أن شمشون شخصية خرافية حتى أن العلماء افترضوا أن شمشون في بداياته كان إلهاً أسطوريًا عند القبائل التي عبدت الشمس فإسم شمشون يعود لغويًا إلى الأصل العبري القديم شمس والبابلي شامشوا وكلا الكلمتين يعنيان الشمس وعدا ذلك فإنه من المعروف أنه يوجد في بيت شمس على مسافة غير بعيدة عن قرية شمشون الأم معبد الإله الشمس فليس من المستبعد أن تكون شخصية شمشون مأخوذة من إله كان مشهوراً في كنعان وتم دسها في التوراة على أنه شخصية حقيقية عاشت منذ قرون في فلسطين و كذلك الامر بالنسبة للعديد من القصص و الخرافات التي دست عن عمد في بقية الكتب الدينية على أنها أحداث حقيقية يجب تصديقها ، تتحدث هذه القصة الواردة في أسفار العهدالقديم على النحو التالي :
كانت أم شمشون قبل ولادته عاقراً لكن ملاك الرب بشرها بأنها ستلد غلاماًو هذا الغلام سيخلص بني إسرائيل من الفلسطينيين الذين كانوا أسياد المدن في جنوب فلسطين ويقطنون في غزة و أسدود و عسقلان وعندما حملت المرأة الإسرائيلية ثم ولدت ذاك الغلام دعته باسم شمشون و نشأ هذا الاخير جباراً فكان يحرق زروع الفلسطينيين في عسقلان و يسلب أمتعتهم و يقتل بعضهم و يبطش بالآخرين
في هذه القصة المنتشرة شفهيًّا أكثر من كونها مكتوبة نجد نموذج قوي العضلات ساذج العقل وهو من النماذج المحببة للقَصَص الشعبية ونجد كذلك نموذجًا لا يقل شعبية هو المرأة الجميلة المحتالة التي تذل أعناق الرجال وهي دليلة
هكذا تناول الموروث الشعبي شخصية شمشون دون أن يبحث لها عن أصل تاريخي ذلك الأصل الذي خلّده القَصَص الديني التوراتي في سِفر القضاة في العهد القديم ثم التحليلات المسيحية للقصة وأخيرا بعض القَصص الديني الإسلامي الموصوف بأنه متأثر بالإسرائيليات
شمشون في العهد القديم
في العهد القديم من الكتاب المقدس وتحديدًا في سِفر القضاة نقرأ أن شمشون الجبار كان أحد قضاة بني إسرائيل في المرحلة بين وفاة النبي موسى وتتويج الملك طالوت تولى منصبه مدة 20 عامًا وتزوج امرأة فلسطينية على غير رغبة أبويه
وفي أثناء ذهابه إلى مدينة زوجته للاحتفال بالزفاف قابل أسدًا وقتله ثم وجد عسلًا في جسد الأسد فأكل منه وفي الزفاف وعد الفلسطينيين بهدية ثمينة لو حلُّوا أحجية ابتكرها من واقع تلك الحادثة وأمهلهم سبعة أيام مدة ولائم الزفاف.
حار الفلسطينيون في حل الأحجية فذهبوا إلى عروسه وسألوها أن تستدرجه لمعرفته وبالفعل باح لها بالحل فأخبرتهم فأجابوه فعرف بأمر إفشاء عروسه السر وأهدى إليهم الهدية لكنه قتل منهم 30 شخصًا وهجر عروسه الخائنة
ثم بعد فترة أراد مصالحتها لكنه وجدها تزوجت غيره ورفضت مقابلته فاصطاد 300 من حيوانات ابن آوَى وأشعل النار في أذنابها وأطلقها على مَزارع الفلسطينيين لتحرقها فانتقم هؤلاء بأن هاجموا عروسه السابقة وأهلها وأحرقوهم بالنار ، ثم لام اليهود على شمشون أنه أثار عليهم الفلسطينيين فعرض على قومه أن يقيدوه ويسلموه إلى أعدائهم ليكُفُّوا عنهم وبالفعل سلّمه قومه إلى الفلسطينيين وما أن أحاطوا به حتى مزق قيوده وتناول عظم فك حمار وقاتلهم به حتى قتل ألفًا منهم
بعد ذلك ذهب شمشون إلى مدينة غزة الفلسطينية حيث تعرف إلى واحدة من البغايا اسمها دليلة وأحبها إلى حد أنه كان يبيت عندها فلما عرف أعداؤه ذلك أغروا دليلة بالمال كي تحتال لمعرفة سر قوته الخارقة فتدللت عليه وسألته عمّا يمكن أن يبطل قوته فاعترف لها بأنه منذور إلى الله منذ كان في بطن أمه وأن المَلَك قد وعد الأم بأن يكون ابنها قويًّا شريطة أن لا يحلقوا شعره
باحت دليلة إلى الأعداء بالسر الخطير فاستغلوا نوم شمشون وجزُّوا شعره ثم قيدوه وانتزعوا عينيه ونظموا الاحتفالات بهزيمة عدوهم وسقوطه في أيديهم وكانوا يربطونه إلى الطاحون ليدور به كما يفعلون بالبهائم
وفي يوم الاحتفال الكبير بالنصر قاد الفلسطينيون شمشمون الأسير إلى معبد إلههم واحتشد منهم ثلاثة آلاف ليشاهدوا الجبار الذي صار أسيرًا أعمى وهو يُلعَب به فلما دخل شمشون إلى المعبد تضرع إلى الرب أن يمنحه القوة مرة أخيرة للانتقام من أعدائه فاستند إلى اثنين من أعمدة المعبد وصاح لِتَمُت نفسي مع الفلسطينيين ثم دفعهما ليسقط البناء على كل من فيه ويموتون جميعًا .
شمشون في المسيحية :
القديس أمبروسيوس يقول إن شمشون تغلب على الأسد لكنه لم يتغلب على هواه وإنه قطع الحبال القوية لكنه لم يقطع حبال شهواته والقديس يوحنا ذهبي الفم يقول إن كثيرًا من الرجال هلكوا بالمرأة مثل شمشون ليس لزواجهم وإنما لرغباتهم المنحلة بينما يؤمن الأب أفراهات أن العدو حارب شمشون بالمرأة حتى جعله يخالف نذره للرب
القديس أغسطينوس يقول ما معناه إن شمشون في القصة يرمز إلى العقل بينما ترمز دليلة إلى الجسد واستسلامه لدليلة وضعفه أمامها رمز لضعف العقل أمام الجسد فينبغي على الإنسان أن يروِّض جسده ويُعلي من عقله
رمزية كون مصدر قوة شمشون في شعره وفقًا لأغسطينوس هي أن الشعر غطاء رأس الإنسان فهو كالشريعة إذا انتُزع منه ضعف
أما إفقاد الفلسطينيين شمشون بصره وربطه في الرحى الدائر فكان كفعل الشيطان في الإنسان يعمي بصيرته ويجعله كالبهائم يدور حول نفسه إلى ما لا نهاية
هكذا حوّلت المسيحية قصة شمشون إلى نوع من الأدب التهذيبي أكثر من كونها سيرة لشخصية توراتية.
شمشون في الموروث الإسلامي :
في بعض تفسيرات القرآن نجد تلميحات لشخصية شمشون تحديدًا في تفسير آية ليلة القدر خير من ألف شهر
نقرأ في تفسير الطبري أن ألف شهر تشير إلى رجل من بني إسرائيل كان يقوم الليل ثم في النهار يجاهد العدو ففعل ذلك ألف شهر وينقل ابن كثير نفس التفسير في شرحه الآية في كتابه تفسير القرآن العظيم
ويكرر القرطبي نفس القصة فيقول إن الرسول محمد أخبر المسلمين عن رجل لبس السلاح للجهاد مدة ألف شهر
وفي كتابَيْ تاريخ الأمم والملوك للطبري وعرائس المجالس للثعلبي النيسابوري نقرأ عن شمشون الذي يصفه النيسابوري بالنبي إذ يقول إنه كان مؤمنًا من أهل الإنجيل يعيش في بعض قرى بلاد الروم وكان قومه يعبدون الأوثان فكان يَغِير على الوثنيين فيحاربهم بعظم بعير حتى يقتل منهم كثيرًا وبقي كذلك ألف شهر ولهذا يُضرَب بالألف شهر المثل في القول خير من ألف شهر
احتال القوم حتى وصلوا إلى امرأة شمشون وقدموا إليها رشوة لتقيِّده لهم في أثناء نومه فقيدته بحبل فلما قام من نومه قطعه وسألها عن ذلك فأجابته أجرب قوتك فإني لم أر مثلك قط ثم كررت المحاولة بالقيود الحديدية فقام وقطعها وسألها عن سبب ذلك فأعادت الإجابة ، ألحّت المرأة في سؤاله فقال لها إنه لا يقيده سوى شعره الطويل فأخذت خصلات من شعره وقيدته بها في نومه وبعثت إلى قومه فجاؤوا وأسروه ، وفي الأسر اقتلعوا عينيه وقطعوا أذنيه وأنفه ثم قادوه إلى وسط المدينة يعرضونه على الناس وكانت المدينة قائمة على الأعمدة فتناول عمودين ثم دعا الله أن يرد عليه قوته وجذب العمودين فانهارت المدينة كلها وهلك القوم ومنهم امرأته أما هو فنجا وأعاد الله إليه بصره
هذه كانت المعالجة الإسلامية لقصة شمشون وهي معالجة تلائم ميل رواة القَصَص الديني إلى أن تكون النهاية مُرضِيَة فهذه هي النسخة الوحيدة من قصة شمشون التي ينجو فيها ويعود له بصره بينما ينزل العقاب بكل أعدائه.
القلم الحديدي 2020/9/16