مقالات متنوعة

الذبيحة والأضحية والقربان عبر العصور

 

إنّ ذبح الأضحية كشعيرة من ضمن الشعائر التعبُّدية وما يتعلق بها من تفسيرات ميثولوجية ليس حكراً على الأديان التوحيدية بل هو طقس بدائي ارتبط بظهور فكرة الدين ارتباطاً كبيراً وكانت تجري  ممارسته عند شعوب وحضارات عديدة ضمن الإطار العام للطقوس الدينية

فالذبيحة إذاً كطقس ارتبط بمرجع ديني هو في الأساس التقرُّب من الآلهة أو من كل القوى الماورائية الخارِقة التي يلمس الناس في نفسهم ضعفاً تجاهها لاعترافهم بسيطرتها وقدرتها وبعجزهم أيضاً عن مجاراتها ،

الذبيحة والقربان في الأديان والمعتقدات البدائية والتوحيدية وعلى رغم الاختلاف الظاهر في الطقوس المرتبطة بها أو في كيفية حصولها وطرق تقديمها أو الميثولوجيا المبرِّرة لها أو المفسِّرة للغاية منها هي في النهاية قربان أو أضحية يتم تقديمها لقوى ماورائية أو ميتافيزيقية من أجل استدرار عطفها ومَدَدها وطمعاً في نيل مرضاتها والثابت فيها فهو إراقة الدم الحيواني الذي يرمز لعنصر الحياة وللاستمرارية  وهي كطقس مرتبطة بالمقدَّس المتماثل مع الإلهي

فبالرغم من أن القرابين المقدمة للآلهة كانت نباتية عند بعض الشعوب والأديان إلا أن القربان الحيواني كانت له الأولوية كما ذكرنا لأن التضحية بالحيوان مرتبطة بإراقة دم الأضحية الذي يشير إلى رمزية الحياة ولعلّ في قصة تقبل الرب لقربان أحد إبني آدم ورفض الآخر ما يدعم هذا الطرح والذي وَلَّد عداوة حسب القصة المعروفة بين الأخوين أدت في النهاية لأن يقتل قابيل أخاه هابيل .

الذبيحة والأضحية في المعتقدات البدائية أسباب وأنواع :

كان التقرّب إلى الآلهة بالذبيحة يرتبط بصيغة احتفالية وموسمية كما كان يرتبط أيضاً بالحاجات الطبيعية الضرورية للشعوب المُراد تحقيقها من قِبل الآلهة فعند الشعوب الزراعية تستدعي الحاجة إلى المطر فيتم تقديم الذبائح والقرابين إلى آلهة المطر أو تقديم القرابين التي قد تكون بشرية للآلهة لاتقاء شرها كما عند المصريين القدامى حتى تمنع عنهم غضب نهر النيل المتمثل في الفيضان مثلاً

وفي بلاد الرافدين قديماً كان يتم تقديم نذور بهيئة مواد مثل الذهب و الفضة و الأحجار الكريمة و الملابس أو حيوان إلى الإله في محاولة البقاء على علاقة مقبولة مع الإله المعبود

وكانت الأغنام من الحيوانات المفضلة لدى الآلهة لذا تحتل مرتبة الصدارة في القرابين كما تم التضحية بالماعز والماشية الابقار والثيران أيضا وليس تقديم القرابين مقتصراً على الحيوانات فقط  فقد كشفت التنقيبات التي أجريت في غرف المعابد في مدن جنوب بلاد الرافدين في فترات ما قبل التاريخ وجود كميات هائلة من عظام السمك التي اعتبرت بمثابة قرابين قدمت إلى المعبد

كان يتم إعداد الأطعمة في مطابخ المعبد وتعرض أمام تمثال الإله ومثل هذا الطعام يكون مباركا وبعد الانتهاء من مراسيم تقديم الطعام إلى الإله يرسل قسم من الطعام إلى الملك والقسم الاخر لمن حالفهم الحظ في المعبد لتناول القليل منه بسبب التهافت عليه من قبل زوار المعبد لنيل البركة

هناك نوع آخر مختلف من القرابين الحيوانية نجدها في مدافن بلاد الرافدين فقسماً من القرابين تشكل غذاء للمتوفى ففي المدافن السومرية كانت الخيول والثيران جزءا من الاحتفال الكبير الذي يرافق الجنازة

وهناك أدلة على وجود تضحية حيوانية لها علاقة بطقوس خاصة ترتبط بإقامة بناء وما نزال إلى الان نمارس تقاليد قديمة جدا فعند شراء بيت جديد أو الانتهاء من تشيد دار يتم ذبح خروف و يغمس الكف في دم الاضحية ثم طبعها على الباب أو الجدران  واحيانا ذبح ديك وفي اقل الحالات يتم كسر بيضة أمام عتبة الدار والهدف من كل ذلك طرد الشر و عين الحاسدين ، وهذه التقاليد من الموروث البابلي القديم و ربما أقدم من ذلك

أما بالنسبة للمعتقدات الكنعانية  الفينيقية فكانت قد عرفت طقس الذبائح البشرية أيضاً وهو ما أكدته المكتشفات الأثرية الحديثة فقد عثر الأثريون في المرتفعات أو المقامات الكنعانية والفينيقية على بقايا للأضاحي البشرية وعلى آلاف من الجرار الحاوية على العظام  المحروقة لأطفال غالبيتهم دون سن الثانية وقلة في الثانية عشرة أحرقوا كأضاحي للآلهة وكما عثروا على رسوم  منقوشة على أعمدة  وعلى آنية لأهالي يهدهدون أطفالهم المرعوبين بغرض تهدئتهم ووقف بكائهم قبل تقديمهم للمحرقة

في الأماكن المشار إليها عثر الأثريون على جرار تنتمي لحقبة تاريخية متأخرة وتحتوي على عظام محروقة لطيور وحيوانات وعلى بقايا نباتية الأمر الذي  يشير لانتقال الكنعانيين – الفينيقيين في تقديم الأضاحي إلى البدائل الحيوانية والنباتية مثلما فعل غيرهم من أتباع الديانات الأخرى السابقة والمعاصرة لهم

وهناك من رأى أن الذبيحة إنما هي هدية أو هِبة يتقدّم بها المؤمن إلى الآلهة من أجل استجلاب كرمها عليه فتكون في وضعية المَدين له والمُضطر لوفاء هذا الدَين و هناك من رجّح مبدأ الهِبة في الذبيحة باعتبار الذبيحة شكلاً من أشكال المآدب المشتركة بين الآلهة والناس حيث يتناولون نفس أنواع الأطعمة فيحدث التقارب بينهما

وهناك من اعتقد على أن الآلهة ورغم قوّتها وسطوتها على الناس تخضع لقوانين الطبيعة فمصير الطبيعة مرتبط بمصير هذه الكائنات القوية فإذا ضعفت أصاب الطبيعة الهزال و من أجل أن يَحُول الإنسان من دون وقوع هذه الكارثة يقوم بنقل القوّة الموجودة في الآلهة إلى شخص آخر وهذا ما كانت تُجسّده بعض القبائل المكسيكية فتأخذ أحد أسراها وتعبده مدة ستة أشهر من السنة ثم تأكله وتذبحه وتصنع من جلده ثياباً لأسير جديد يصبح بدوره إلهاً وتعتقد بأن الإله الذبيح قد ذهب بأمراضها وجرائمها وعِللها ،

كما قدمت بعض شعوب أميركا اللاتينية كشعب المايا قرابين وذبائح للآلهة طلباً لحاجات أو تكفيراً لذنوب اقترفوها عبر ممارسة طقوس الأضاحي البشرية فلم يكتف القائمون عليه بالتضحية بالآحاد من الناس كما في الديانات الأخرى وإنما تجاوزوه إلى التضحية بالجموع فاحتاج ذلك لغزو القبائل المجاورة وأسر أفرادها وتقديمهم أضاحي جماعية وأكثر من ذلك لم يكتفوا بقتل الضحية وحرقها على المذبح بل كانوا يعمدون إلى انتزاع القلب من الأسير وهو حي في طلب لرضا الآلهة.

الذبيحة والأضحية في الأديان السماوية :

اعتمدت الديانة اليهودية من خلال التوراة باعتبارها الكتاب المقَدس الأول للعقيدة الدينية التوحيدية في موضوع الذبيحة والأضحية على مبدأ التكفير عن الخطايا والذنوب وعلى طلب العون من الرب فلم يختلف مضمون الذبيحة عندها عن مضمونها لدى الأديان الوثنية والبدائية فنجد إراقة دماء الأضاحي في الكثير من المواضع في التوراة مثلاً في قصة إبني آدم قابيل وهابيل وفي قصة أمر الرب لإبراهيم بالتضحية بإبنه إسحاق في استحضار لطقس القربان البشري الذي عَرفته حضارات وشعوب قديمة مثل الفراعنة و البابليون والسومريون… الخ

أما في الديانة المسيحية فإن فكرة الذبيحة تجسَّدت في المسيح المصلوب فالتكفير عن الذنوب والخطايا والتقرّب من الرب وطلب الغفران لا يتأتّى من خلال تقديم أضحية حيوانية وإنما هي مُجَسَّدة في يسوع الذي يَفْتَدي أتباعه بدمه ويتحمَّل عنهم خطاياهم

وبالنسبة الى الديانة الاسلامية فتحتل الذبيحة فيها  موقعاً رئيسياً في الطقوس التعبدية باعتبارها واحدة من الشعائر الأساسية للمسلم والتي تجري وفق نسق متكامل ، من حيث نوعها وصفاتها الجسدية وساعة التضحية بها وتقسيمها ومن يحق له الأكل منها  وبيوم يُعتبر عيداً مقدساً عند المسلمين وهي وإن التقت مع مثيلتها اليهودية التوراتية لكنها تختلف عنها في تفاصيل طقسية معينة من ناحية وفي قصة أمر الرب لإبراهيم بافتداء إبنه إسحاق في الرواية التوراتية اليهودية وإسماعيل في الرواية الإسلامية كقصة مركزية في المسار التأسيسي لطقس ذبح الأضاحي في الديانتين اليهودية والإسلامية من ناحية ثانية .

القلم الحديدي 12 / 10 / 2020

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى