التأويل عند مفكري رجال الأديان العالمية
التأويل عند مفكري رجال الأديان العالمية إنَّ الذي عُني بدرسِ التفكير الدينيّ لدى أصحاب الديانات العالميّة: اليهودية، والمسيحية، والإسلام. وتَتَبّع مَوقف أكثر هؤلاء المفكرين إزاءَ نَتائجِ التفكير الفلسفي العالمي، سيَنتهي إلى حد ما إلى الرَّأي الذي يَقولُ أنَّ تأويل النصوص الدينية لتتفق وبعض الأفكار الفلسفية الصحيحة ظاهرة تاريخية في التفكير الديني ومِنَ الشَّواهد أو الأدلة على ما نقول ما وَجَدنا من هذا التأويل في كل العصور، وأنَّ فكرة التأويل لدى ابن رشد لم تكن بدعًا ولا تقليدًا منه.
ولعل من البواعث الهامة التي بعثت أولئك المفكرين من رجال الديانات العالمية الثلاث إلى التأويل، هو ما يراه الواحد منهم من أنَّ دينه عالمي للخاصة والعامة من كل الأمم وفي كل العصور، فيجبُ أن يكون مُتفقًا في أفكاره مع الحقائق الفلسفيّة التي قامت الأدلّة على صحتها، والتي فرضت سلطانها العام أو العالمي، وذلك ما لا يكون إلا بالتأويل.
وكذلك من أسباب الاضطرار إلى التأويل بإيجاز أنَّه في مسائل الطبيعة وما بعد الطبيعة قد تكلم الأنبياء وأحبار الدّين ورؤساؤه بالمّجاز والإلغاز عمدًا لخطورة الموضوع، وذلك لتكون العامة ومن إليهم بمنجاة من محاولة فهم هذه المسائل التي فوق طاقتهم، ومن ثم وجب التأويل لبعض النصوص بالنِّسبة للحكماء الذين تؤهلهم عقولهم واستعداداتهم لتأويلها وإدارك ما فيها من حقائق جاءت بطريق الرَّمز والمجاز، كما يذكر “كليمانت الإسكندري”؟
وفضلًا عن هذا وذاك؛ فإنَّه — وقد وجدت فكرة العالمية لكلٍّ من الدين والفلسفة، وأخذ الباحثون يُعملون عقولهم فيها — كان لا بدَّ أن يَظهرَ التّعارضُ بينهما لاختلاف طريقة العرض والأسلوب وخطة البحث لدى هذين الطرفين، فكان لازمًا التأويل بينهما، وهذا ما حصل فعلًا في كلٍّ من الأديان الثلاثة.
التأويل لدى اليهود قبل فيلون:
الكلام على التأويل عند فيلون الإسكندري معناه الكلام على العُمدة في هذه النَّاحية في رأي كثير من الباحثين؛ فقد كان لموقفه حيالَ التوراة وفلسفة اليونان الأوائل، وتأويلِ كثير من نصوص تلك أثَرٌ مباشر أو غير مباشر في مُفكري المسيحية والإسلام في العصر الوسيط، عندما وَجَدوا أنفسهم في مثل موقفه، وقرءوا ما وصل إليهم من كتاباته فيما ورثوه من فلسفة الأفلاطونية الحديثة بالإسكندرية. إنَّ القارئ لِمَا كتب فيلون يحس إحساسًا قويًّا بأنَّ الشريعة والفلسفة هما المصدران لتفكيره، ولا عجب في هذا، فإنَّ الحقيقة واحدة؛ فلا تناقض نفسها وإن اختلفت صور التعبير عنها، يُريد أن يقول بأنَّ ما هو حق من الفلسفة ليس إلا ما نجده في التوراة من حكمة، وإن لبست على أيدي الفلاسفة ثوبًا أو ثيابًا أخرى. ولكن كيف هذا والشريعة بظاهر كثير من نصوصها لا تسير والفلسفة! هنا نَجِدُ فيلسوف الإسكندرية يُصَرِّح بأنَّه تقريبًا كل ما هو خاص بالعقيدة من نصوص له معنى مجازي يهدف إليه. وإذن، فالتَّأويل ضروري لما يراه فيلون وأمثاله من أنَّ الأنبياء تكلموا كثيراً بالمجاز سترًا للحقيقة عن غير أهلها، إذن يكون فهْم النص على حقيقته ليس مقدوراً للجميع، ما دام طريق هذا هو التأويل الذي ليس مقدورًا أو مسموحًا به للناس جميعًا. وللتَّأويل أصول أوضحها فيلون وشدد في اتباعها، ومنها يتبين ما لكلٍّ من المعنى الحرفي والمعنى الخفي من قيمة لديه:
- إنَّه يَرَى أنَّ المعنى الحرفي يُشبه الجِسْمَ، والمعنى الخفي يُشبه الروح.
- ومع هذا ينبغي ألا نُهْمِلَ المعنى الحرفي، بل يجبُ أن نُراعي الحرف والروح معاً أو الظاهر والخفي؛ ولهذا يلوم الذين لا يُلقون بالًا لكلٍّ منهما، ويرى من الواجب العناية بهذا وبذاك، وذلك بما أنَّه من الواجب العناية بالجسم والروح معًا.
على أن فيلون مهما يُشَدِّد في عدم إهمال الحرف، فإنَّ تشبيهه له بالجسم بجانب المعنى الآخر الخفي الذي يُشبه الروح، ويُضَاف إلى هذا تآويله التي تنزل بالمعنى الحرفي إلى العدم أحياناً، وكذلك ما يضفيه في بعض الحالات من تآويل تُعارض تآويل أُخرى مأثورة، إن كل هذا يجعلنا نرى بحق مع “برهييه” أنَّ عبارة “قوانين التأويل المجازي” التي يُكَرِّرها فيلون نفسه لا تعني أكثر من مبادئ عامَّة لا تنال من حُرِّية من يأخذ في التأويل.
وفي الواقع إنَّ فيلون يجعلُ من التأويل وسيلة ضرورية يُحَقِّق بها أغراضًا لها قيمتها لديه، أو بِعِبَارة أُخرى لتتفق النصوص المُقَدَّسة مع آرائه الفلسفية: في الله، وفي خلق العالم، وفي النفس، وفي الدين بصفة عامة، الدين الذي يحرص الحِرصَ كله على أنْ يأخُذَ صفة “العالمية”، لا أن يظل دينًا لطائفة خاصَّة هم بنو إسرائيل، وهكذا بالتأويل المجازي الذي اصطنعه فيلون يستخرج ما في التوراة من فلسفة تظهر أنَّها عارية منها لو أخذت نصوصها حرفياً.
ويرى فيلون أنَّ من الضروري تأويل النصوص التي تثبت بظاهرها لله ما لا يليق به من الصفات والأحوال :كالتجسيم، والكون في مكان، والكلام بصوت وحروف، والندم، وهو في هذا يقول: الله لا يأخذه الغضب ولا يندم ولا يتكلم بحروف وأصوات، وليس له مكان خاص يَقَرُّ فيه.
ويؤوِّل حفظًا لعظمة الله ولتنزيهه عن العناية بما لا يليق بجلاله من أمور تافهة، ومن بَابِ التَّمثيل نرى التوارة تقولُ: إن ارتهنت ثوب صاحبك فإلى غروب الشمس ترده له؛ لأنه وحده غطاؤه، هو ثوبه لجلده، في ماذا ينام. وهنا يصيح فيلون: “ولكن كيف! هل يُعنى الله بمثل هذه التفاصيل التافهة؟” ثم يقول: “إنَّ أبطأ الأذهان إدراكًا وفهمًا ليَرى أنَّ وراء الحرف معنى آخر يُبين بالتأويل الحق المجازي. وهو يؤوِّل كذلك قصَّة خلق العالم في ستة أيام، وهي بنصها الحرفي أنَّ الله في خلق العالم كان مُحتاجًا إلى مُدَّة، وفي هذا يقول: “إنَّ الأيام الستة التي يتحدث عنها موسى لا تعني أنَّ الخالق كان في حاجة إلى مُدَّة من الزمن. ولكن موسى أراد أن يعرفنا باللغة التي نفهمها نحن البشر بنظام العالم الذي خلقه الله، ومنزلة بعضه من بعض، وهذا أمر فهمه يسير في رأي فيلون الذي يقول في هذا الصدد: “إنِّي أَرى منَ السَّذاجة أن نَعْتَقِدَ من هذا أنَّ العالم خُلِقَ في ستة أيام، أو بصفة عامَّة في فترة مِنَ الزمن.”
كما يؤوِّل أيضاً للتخلص من المعنى الحرفي الأسطوري ذي الغرض، وهو يُحارب بشدة هذا الضرب من التأويل الذي يهدف إلى نقد التوراة بجعلها بمنزلة كتب الأساطير الإغريقية، إنَّه يُقاتل هذا الفهم الحرفي في ميدانه، وذلك بأنْ يُعارضه بفهم حرفيٍّ آخر يتفق وسمو التوراة، ثم يُضيف بعد هذا تأويلًا آخر مجازياً. ومن المثل لذلك ما جاء في التوراة عن تضحية إبراهيم لولده إسحاق،(هكذا يعتقد اليهود خلافًا لما يُفهَم من القرآن أن التجربة كانت في سيدنا إسماعيل عليه السلام.) فقد رأى بعض الشُّرَّاح في هذا مماثلة لما جاء في بعض الأساطير الإغريقية من هذا الضرب من التضحيات.
ومثال آخر وهو قصة بلبلة الألسن التي وردت في التوراة، والتي قرَّب إليها بعض معاصري موسى أسطورة إغريقية تقول بأنَّ لغة الناس والحيوان كانت أول الأمر واحدة. إنَّ فيلون يعرض هنا هذه الأسطورة ثم يذكر أنَّ موسى وقد اقترب أكثر ما يكون من الحقيقة فَصَلَ الحيوانات عن الكائنات العَاقلة، وأظهر وحدة اللغة بالنِّسبة للناس فقط أول الأمر، على أنَّ فيلون بعد أن رفع من شأن موسى هكذا لم يرضَ هذا التأويل ووصفه بأنه أسطوري أيضاً. وبعد ذلك كله نراه يؤوِّل، صيانة أيضاً للتوراة من أن تكون كتاب أساطير كبعض كتب اليونان، يؤوِّل الأشخاص التي جاءت في قصص التوراة، وذلك بأن يَجْعَلها رُموزاً لبعض حالات النَّفس، ومن مثل هذا قصة خلق آدم ثم حواء من إحدى أضلاعه، وإغراء الحية لهما، وقتل قابيل لهابيل، كل هذا ونحوه تناوله فيلون بالتأويل المجازي الذي يُعتبر الغرض الأخلاقي هو الناحية الأساسية فيه.
ويَتَّصِل بهذا التأويل النفسي أو الرُّوحي ما ذهب إليه من تأويل أشياء العبادة بجعلها رُموزاً للحالة الداخلية للنفس، مثلاً إنَّ التابوت هو الرُّوح بفضائلها غير القابلة للفساد، وأفكارها التي لا تُرى، وأعمالها المرئية المشاهدة، وآنية صب الشراب موضوعة على المنضدة، هي الروح الكاملة تفتح ذاتها لله، وزنبق الشمعدان هو فصل الأشياء الإنسانية والإلهية، وعلو التابوت هو عظمة الروح التي تُضَحَّى وتقدم قربانًا، وزيت المصباح هو الحكمة. وأخيرًا في تلك الناحية، نكتفي بالقول بأنَّ فيلون يؤوِّل أيضًا لغاية أُخرى مُهِمَّة جداً في رأيه؛ إذ إنَّها تُعبر عن فكرته الأساسية من استعماله للتأويل المجازي، وهي أنْ يَصِيرَ الدين الموسوي دينًا عالميًّا، وهذه الغاية يحول دونها فهم النصوص فهمًا حرفيًّا دائمًا. ولذلك نراه يتشدد في ضرورة تأويل كثير من نصوص التوراة، يتشدد حتى إنه ليقول:هؤلاء الذين لا يُريدون قبول طريقة التأويل المجازي، ليسوا أغبياء فحسب، بل هم أيضًا مُلحدون”. ومما تَقَدَّم كله نرى أنَّ أنواع التأويل التي عرفناها عن فيلون هي ثلاثة كما يذكر برهييه، وهي:
- التأويل الحرفي ذي الغرض.
- التأويل الحرفي البسيط.
- التأويل المجازي.
وقد كان حربًا على النوعين الأولين دفاعًا عن الدين الموسوي، وقد كان من هؤلاء وثَنِيُّون يُريدون جعل التوراة بمنزلة كتب الأساطير اليونانية، ومنهم يهود جُهَلاء هم أولى بالرِّثاء منهم بالموجِدة، ولم يكن التأويل الذي يدعو إليه ويُوجبه لكثير من نصوص التوراة إلا التأويل المجازي، وكان مَصدره في هذا الضرب من التأويل: الإلهامَ، والبحث والتفكير الشخصي، والمأثورات.
وكانت نتيجة اصطناع فيلون طريقةَ التأويل المجازي حسب ما رأى لنفسه، التأويل الذي عرفنا مبلغ تشدُّده في رعايته! إنَّ فيلون جعل التوراة بذلك تَتَّسِعُ لما كان يراه حقًّا من الفلسفة الإغريقية، ولَعَلَّه بهذا قد رَفَع من شأن الدين الموسوي وكتابه المُقدس في نظر العالم الهلنسي، الذي كان يعيشُ فيه، فقد كان يُفاخر بهذا الكتاب وما حوى من حكمة — يوصل إليها بالتأويل — لم يصل فلاسفة اليونان لأسمى منها. وعلى فرض أنَّ فيلون نجح فيما أراده وعَمِل له، فقد أفسد التوراة وأخرجها عن أن تكون كتابًا دينيًّا يتأثر به القلب والعقل معًا، فيهدي بذلك قارئه للخير والسعادة، بل إنه كاد بصنيعه أن يمحو ما أنزله الله في التوراة من هدى ونور!