الماسونية والحضارات القديمة
ما ﺑﺮﺣﺖ الماﺳﻮﻧﻴﺔ ﻣﻦ ﻳﻮم ﻧﺸﺄﺗﻬﺎ ﻋﺮﺿﺔ لألسنة الناس وﻗﺪ ﺳﺎءوا ﺑﻬﺎ ﻓﺄرادوا ﺑﻬﺎ ﺳﻮءًا وﻫﻲ ﺑﺤﻤﺪ ومجد مهندس الكون الأعظم راﺳﺨﺔ اﻷﺻﻮل لا ﺗﺰداد إﻻ اﻧﺘﺸﺎراً ذﻟﻚ ﻷن ﻋﻤﺎدﻫﺎ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ وﻏﺎﻳﺘﻬﺎ اﻟﻜﻤﺎل وأنصارها أﺑﻨﺎء اﻟﺤﺮﻳﺔ والعلم اﻟﺬﻳﻦ ﻻ ﺗﺄﺧﺬﻫﻢ اﻟﺼﻴﺤﺔ وﻻﻫﻢ ﻏﺎﻓﻠﻮن .
للمؤرخين إخوتي في منشأ الماسونية أقوال متضاربة والسبب في تفاوت هذه الأقوال وتضاربها طموس التاريخ الماسوني قبل القرون المتأخرة لأن الماسونية كما لا يخفى على أحد عشيرة سرية نظراً لما كان يتهددها من الاضطهادات المتواترة في الأجيال المظلمةوغيرها فكانت تبالغ في إخفاء أوراقها إخفاءً ربما لا يعود يتيسَّر معه لمَن يبقى حيًّا بعد الاضطهاد أن يكتشفها ،
فقد تبيَّنَ أن الطريقة المثلى لنشر العلم والفضيلة في الحضارات القديمة إنما هي الجمعيات السرية المنظَّمة لما تم ذكره آنفاً من اسباب فوجود مثل هذه الجمعيات التي تحوي الفئة العاقلة في العصور الخالية في سائر العالم المتمدن والمتحضر دليل طبيعي على العافية في جسم العمران والمدنية والحضارة الانسانية .
ومعلوم أن تسلُّط الفئة العاقلة وانقياد الفئة الجاهلة إليها من النواميس الطبيعية المقدرة فقد كان في يد هذه الفئة العاقلة جميع علوم ذلك العصر ومعارفه وصنائعه من بناء وفلك ورياضيات وطب وموسيقى وفلسفة أدبية ودينية روحية وغيرها وكانت لا تسمح بتعليمها إلا لمَن تختبر فيه اللياقة والمقدرة على اكتسابها واستعمالها فوضعوا لانتقاء اللائقين من الراغبين شروطًا وقوانين بالغوا في المحافظة عليها
ذلك كان شأن الأمم والحضارات القديمة المتمدّنة في مصر والهند وآشور وفينيقية وسوريا واليونان وغيرها فكانت فيها تلك الفئات من العقلاء والفلاسفة تُدعَى غالباً بالكهنة وعلومهم بأسرار الكهانة وكان بين طرق تعليمهم وشروط قبول الراغبين في الاشتراك معهم من المشابهة ما يحمل على القول بوحدة أصلهم أو بتفرُّع جمعياتهم بعضها من بعض حتما .
فالماسونية إذا لم تكن أحد تلك الفروع فهي لا شك في أول نشأتها منسوجة على منوالها لأن الذين سعوا إلى تأسيسها واهتموا في نشر تعاليمها لا يخلو أن يكونوا على بيِّنة من تلك التعاليم فالمؤسسون إذاً من فئة العلماء وهم لا يُقدِمون على ما تقدَّمَ إلا وهُمْ على اطلاع من أمر الجمعيات السرية وقوانينها وأساليب تعليمها فالماسونية إذاً قد نُسِجت على منوال الجمعيات السرية القديمة هذا إذا لم نَقُلْ إنها فرع من فروعها أو استمرار لإحداها في الحضارات القديمة .
وإيضاحاً لا بد لنا من ذِكْر شيء عن أحوال تلك الجمعيات في بعض الحضارات القديمة كل منها على حدة وأثرها في النهوض بمجتمعها فنذكر :
* الكهانة المصرية والحضارة الفرعونية
قال هيرودوتس المؤرخ المشهور :
إن مصر قبل دخول تعاليم إيزيس وأوزيريس إليها كانت من الهمجية والتوحش على درجة كبيرة أما بعدها فسَادَ فيها النظام وازدهت بالعلم والفضيلة وارتقت في الدين والشرائع فكان فيها جمعية سرية تُدعَى «جمعية إيزيس السرية» وكانت ذائعة الصيت في سائر أنحاء العالم وكان يقصدها الطالبون من أنحاء شتى ولم يكن يُقبَل فيها إلا مَن عُلِم عنه بعد التحرِّي التام والشهادات الحسنة أنه أهلٌ لنوال تلك الأسرار الثمينة وليس ذلك فقط فإنهم كانوا يسومونه عند القَبول مشقات عظيمة تختلف بين تخويف وتهديد حتى إذا جازها بثبات قالوا إنه تغلَّبَ على الشر فيلقِّنونه الأسرار فإذا لم يروا في سيرته ما يمنع إتمام قَبوله يسلمونه إلى قائد يسير به في أتياهٍ من الطرق تغشاها الظلمات إلى أن يصل إلى مجرى من الماء فيقف به وفي يده كأس فيه ماء ويخاطب الطالب قائلًا « أيها الراغب في مؤاخاتنا الساعي وراء السداد الأعلى هذا هو ماء النسيان تجرعه يُنْسِكَ جميع ما مرَّ بك من الأدناس والنقائض فتصير أهلًا لاقتبال الفضيلة والحق والصلاح التي ستتشرف بنوالها الآن » فيشرب ثم يتقدم به إلى أماكن أشد ظلامًا وإرهابًا من ذي قبلُ فيزيد وجلًا ثم ينبثق النور بغتةً وينسم الهواء المنعش بالروائح العطرية ثم يسمع الترنيمات الموسيقية المطربة تضرب نغم الانتصار إشارةً إلى انتصاره على تلك التجارب المهولة ثم يُلقَّن الأسرار المقدسة وتُتلَى عليه العلوم والمعارف ويُحسَب من ذلك الحين في عداد سعاة الكمال ثم يرقى في سلك تلك الجمعية بموجب دستورها ،
و برعت الحضارة المصرية القديمة حينها وبعهد هذه الجمعيات بالهندسة والبناء والفن والرسم والنحت وما الأوابد والرسومات الخالدة فيها إلا خير دليل على ذلك كبناء الاهرامات والمسلات والمعابد والهياكل فالأهرامات ترمز إلى القوّة والمتانة والبناء المتكامل المستمر على مرّ العصور والمسلات الشاهقة ذات القمم الهرمية التي تشير الى اشعة الشمس والنور الذي ينزل من السماء الى الأرض حيث كانت القمة الهرمية لكل مسلة مذهبة أو مطلية بمزيج من معدني الذهب والفضة وربطت الحضارة المصرية القديمة المسلة بنظرية الخلق حيث اعتبروا أن المسلة هي التل الأزلي الذى بدأت عليه الخليقة وتعد المسلات المصرية القديمة إبداعا هندسيا ومعماريا متميزا من ابداعات المهندسين والبنائين القدماء ،
أما بالنسبة للرسومات كعين حورس إله السماء مثلاً و الذي غالباً ما يصوّر على هيئة صقر والتي نجدها منتشرة على جدران المعابد والهياكل فهي علامة على القوة والبقاء وطول الأمد فهي عين مهندس الكون الأعظم التي ترى كل شيئ وتراقب كل شيئ .
* مجمع الكبراء والحضارة الفينيقية والسورية
يظهر أن منشأ هذا المجمع قديم العهد جدًّا وتعاليمه كانت منتشرة في سائر المدن القديمة كفينيقية وسوريا وغيرها حتى قيل إنها أصلٌ لجميع تعاليم المجامع السرية القديمة في العالم فالذي يقرُّون على إدخاله بينهم كانوا يمتحنونه امتحانات شبيهة بالامتحانات المتقدم ذكرها وكان على الطالب أيضًا عند الإقرار على قبوله أن يغتسل أولًا بالماء والدم ثم يقدِّم ثورًا أو كبشًا ضحية ثم يتقدم إلى الامتحانات المرعبة وبعد ذلك يُلقَّن التعاليم السرية ثم يُعطَى اسمًا جديدًا منقوشًا مع علامة أخرى رمزية على حجر أبيض صغير فيحفظه الطالب كطلسم مقدَّس وينقله معه إلى حيث توجَّهَ إشارةً إلى كونه عضوًا في ذلك المجمع فيعرفه سائر الأعضاء في سائر الأنحاء ويعاملونه معاملة الأخ وقد كانت تعاليم هذا المجمع منتشرة في سائر مدن سوريا وكانوا أعضاءه معروفين بالأمانة والمهارة حيث برع البنّاء والمهندس عن طريق هذه الأخويات والجمعيات في جميع الفنون والحرف فبنى وشيّد مئات المعابد العملاقة والهياكل الخالدة والزقورات الشاهقة والحدائق المعلّقة والأعمدة المهيبة و استعمل الرسوم والالوان الرائعة لتزيينها والرموز الهندسية الروحية الخالدة على جدرانها كالنجمة السداسية التي أحب ان أسمّيها نجمة البنّاء الكنعاني كرمز لإتحاد القوى المتضادة مثل الماء و النار ، الذكر و الأنثى ، ويمثل ايضا التجانس الكوني و ايضا ترمز النجمة السداسية الى حالة التوازن بين الإنسان و الخالق ،
في الحضارات القديمة عند الآشوريين والعموريين والكنعانيين كانت النجمة السداسية رمزا للخصوبة و الإتحاد الجنسي حيث كان المثلث المتجه نحو الأسفل تمثل الأنثى و المثلث الآخر المتجه للأعلى يمثل الذكر
وتعد نجمة البنّاء الكنعاني من اكثر الرموز الكنعانية والسورية والفينيقية فلسفة وروحانية وانتشارا في المعابد والكنائس والجوامع ودور العبادة الى يومنا هذا فالنجمة السداسية المؤلفة من مثلثين متصالبين متقاطعين الأول قاعدته الى الاعلى ورأسه الى الاسفل يمثل السعي الالهي للحلول في البشر والمثلث الاخر المتصالب معه والذي قاعدته الى الاسفل وراسه الى الاعلى يمثل سعي البشر للفناء في الذات الالهية.
* تعاليم فيثاغورس والحضارة الإغريقية
أخذ فيثاغورس العلم عن الكهنة المصريين في الجمعية الإيزيسية السرية ومن علماء الكلدانيين ومن جمعية الكبراء المتقدم ذكرها في فينيقية وزار لهذه الغاية أيضًا اليهودية وسوريا وكريت وسبارطا ثم عاد إلى وطنه ساموس من أعمال اليونان ونظَّم مجمعًا لتعليم العلوم والآداب التي اكتسبها في تلك السياحة الطويلة وجعل طريقة تعليمه على مثال سائر المجامع وكان على الطالب قبل التقدم إلى الامتحان ان يمتنع عن الكلام مدة طويلة من الزمن ومن العلوم التي كان يعلِّمها فيثاغورس الرياضيات والموسيقى والفلك والفلسفة واللاهوت وعلم الإنسان و التي نهضت بفكر وعلوم وفن الحضارة الاغريقية وأعطت المشيّدات الرائعة والمعابد الضخمة والهياكل المعروفة للجميع والتي انتقلت مع البنائين الى الامبراطورية الرومانية و فيما بعد الى جميع انحاء اوروبا .
القلم الحديدي
20 / 6 / 2020