شراكة الروح والجسد
إننا لا نبخل في العطاء، لكن ما نعطيه ليست له صفة القضية المبرمة، ولا نفرض الأخذ به لسببين: الأول أن القضايا الماورائية لا يمكن الجزم بها لأنه ليس عليها أي برهان حسي، ذلك أن الحواس محدودة، والماورائيات غير محدودة، وليس للمحدود أن يحيط باللاحدود. هنا يجب أن نتذكر أن الحس معیار ناقص لا يدرك إلا بعض ظواهر الأشياء، ومتى كان المعيار ناقصاً فسد الوزن، واعتماد الحواس وحدها الحكم على حقائق الأمور يعيد الإنسان إلى حيوانيته، ولأن الماسوني حر وليس لأحد أن يفرض عليه إرادته، لا في قول ولا في فعل ولا في اعتقاد، إلا ما يريده هو، ويقبل به، ويرضاه لنفسه مختارة، ويقتنع به عقله، وخصوصاً أن هذه العلوم في البحر، يأخذ منها الإنسان بقدر الوعاء الذي تحمله.
لذلك جعلنا للبحوث التي نقدمها، هنا وفي أي مكان آخر، مصدقة المطروح ولمعطيات، وتترك للقارئ أن يفكر فيها، ويجعلها موضوع تأملاته، وأخيراً يأخذ بالنتيجة التي كونها، ووصل إليها عمق تفكيره، وصفاء حدسه، وسمعة الوعاء الذي غرف به. هذه هي طريقة الماسونية، إنها تحرص على أن تترك للعقل أن يفكر تعود إلى الموضوع ونطرح القضية بالشكل التالي: العالم المادي ليس المقر الأصلي للروح، فهي ثابتة والعالم المادي متغير، بل جاءت إليه لغاية، وستذهب منه بعد حين، فالغاية من مجيئها، إذا استثنينا الأنبياء والأولياء والمقربين، هي استعمال المادة للاختبار، واكتساب الفضائل، والتخلص مما فيها من رواسب الأخطاء الأرواح في عالمها الأثيري على درجات، وكل منها تعمل مختارة أو مسوقة الإحراز الصفاء والنقاء لكي ترقي صعدة في مدارج تسامیها نحو الملأ الأعلى. فمتى كانت الروح مشوبة ببعض النقائص التي يحتاج التخلص منها إلى المادة ، فإنها تأتي إلى الأرض، فتدخل الجسد، يشدها إليه الجسم الأثيري الذي يتيح لها ترك الجسد بعض الوقت كل يوم خلال النوم لتسبح في عالمها اللطيف أثناء الحلم وترتاح من أعبائه. إلا أن مقاصد الروح من رحلتها لا يعرفها الجسد ولم يصل إليها وعيه، بل تبقى كامنة في اللاوعي، الذي لا يمكن الوصول إليه إلا نادرة بالتأمل العميق، فتنتظر طوال مدة الرضاعة والطفولة والمراهقة والشباب، ولا تتقدم تقدماً يذكر نحو مراميها، حتى متى دخل الرجل عتبة العالم، انصرف إلى الاهتمام بحاجات جسده من مأكل وملبس ولهو ورفاهية، فضلاً عن النزوات العارضة التي يعمل على إرضائها، والشهوات البغيضة التي يتوفر على إشباعها، عندئذ تقوم معركة صامتة بين الجسد والروح.
فالروح: كـائـن غيـر مادي قـد يلبس أو لا يلبس جسداً “تبتهج روحي بالله مخلصي” “الله روح“. وقيل عن الملائكة الذين لا جسد لهم أنهم “جميعهم أرواح خادمة“. ويتكون الإنسان من ثلاثة عناصر: (روح ونفس وجسد). وهـذا مـا يـؤيـده قـول الرسول بولس “ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكـم كـاملة بلا لوم”. فالجسد هو الجزء المادي في تكوين الإنسان أما النفس فهي عنصر الحياة الحيوانية، وفيها يشترك الإنسان مع الحيوان وعليهـا يـتـوقف الـفـهـم والحركة والحساسية، وهي تتوقف عند الموت. والروح هي العقل، العنصر الخالد، مصدر الإرادة والضمير. خلق الله الإنسان بإعطاء حياة للجسد الذي صوره ثـم بخلق روح عاقلة وهبها للانسان. وعند الموت يرجع التراب “الجسد” إلى الأرض كما كان وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها.
النفس الحية في الحيوان هي مجرد النفس الحيوانية وهي نفسية ومادية في طبيعتها وتهلك مع الجسد، وهي التي قيل عنها “لا تأكلوا دم جسد ما لان نفس كل جسد هي دمه” . أما النفس الحية في الإنسان فهي عنصر اسمى، هي النفس العاقلة التي نفخها الخالق في الإنسان وجعلها على صورته. ولهذا ففي كثير من الأحيان تستعمل لفظة “الروح” في الكتب السماوية بدل النفس، ولفظة النفس بدل الروح ولهذا يعتقد كثيرون ان هناك عنصرين فقط في الإنسان الجسد ويشمل النفس الإنسانية والروح.
روح القدس: هو روح الله، الأقنوم الثالث في الثالوث، وقد ذكر هذا التعبير العهد القديم ثلاث مرات فقط لكنه يتضمن إشارات عديدة لعمله أما في العهد الجديد فقد ذكره مراراً. وقد سمي روحاً لأنه مبـدع الحياة، ودعي قدوساً لأن من ضمن عمله تقديس قلب المؤمن ويدعى روح الله وروح المسيح. ويعلمنا الكتاب المقدس بكـل وضـوح عـن ذاتية الروح القدس وعـن ألـوهـيته ، إذا نسب إليه أسماء الله الحي، وصفاته، أعماله وعبادته.
هذا العرض المقتضب الذي نفترضه عن المشاركة بين الروح والجسد في الماسونية سيثير عند الإنسان كثيرة من الأسئلة، فإذا جعله موضوعة لتأملاته، فإنه قد يصل إلى بعض الأجوبة، وسيرى أن كل جملة فيه تفتح أمامه آفاقه بعيدة تتناول أسرار الحياة والموت.