فلسفة العدد وصيرورة المعرفة
من الفيثاغورية إلى إخوان الصفا
حول النماذج البدئية وفلسفة العدد وصيرورة المعرفة
موسى ديب الخوري
علَّتنا سرٌّ في سرٍّ، سرُّ شيء يظل محجوباً، سرٌّ لا ينقله غير سرٍّ آخر؛ إنه سرٌّ على سرٍّ محجوب بسر
علَّتنا الحق، وحق الحق: إنها الظاهر، وباطن الظاهر، وباطن الباطن؛ إنها السرُّ، وسرُّ شيء يظل محجوباً، سرٌّ يكتفي بالسر
صيرورة المعرفة صيرورةٌ تطورية في جوهرها: فالمعرفة فعلٌ ديناميٌّ يتأسس على تعدُّد مناحي تطور الإنسان وتَكامُلها. وهكذا تتجلَّى المعرفةُ الديناميَّة من خلال تطور الإنسان على المستويات الفسيولوجية والنفسية والعقلية والروحية. فالمعرفة، إذن، لا تقوم على المنهج، ولا ترتكز على الأدوات، ولا يمكن لنا سبرُها من خلال التجربة والبرهان فقط – ذلك لأنها لا تقف عند حدٍّ، وتكتسب معناها من هذا التوازن الدينامي القائم على التفتح المستمر. فالكيان الإنساني ينطوي على أعماق لا يُسبَر لها غور، بما هي منبع دفَّاق للنماذج البدئية Archetypes المتفتحة، التي كلما تعمقنا فيها ازدادت “بدئية” وأصالة – إلى ما لا نهاية. وتُقابلُ دفقَ هذا المنبع الداخلي كثرةٌ في أنماط الموجودات لا يمكن حصرُها في الطبيعة والكون
كذا فإن صيرورة المعرفة تتضمن باطنًا وظاهرًا في آنٍ واحد. وكلما غصنا في السرِّ الداخلي تكشفتْ لنا أبعادٌ أوسع وأغنى في العالم الخارجي؛ وكلما أوغلنا في سَبْر الوحدة في عالم الظاهرات والتعدد تفتقتْ في الأعماق إمكاناتٌ ورؤى جديدة وأصيلة. إننا لا نستطيع، بأيِّ شكل من الأشكال، فصل تطورنا الفسيولوجي عن تفتحنا النفسي والعقلي والروحي. ولا يمكن لنا أيضًا حدُّ صيرورة تطورنا بنهاية عظمى: فمُعامِلات تفتُّحنا لا تقاس أبدًا عبر تجزئة كياننا؛ ووحدة الكيان تنبع من كلِّية وجودنا، لا من تجمُّع بُنانا وتضافُر عناصر الوسط البيئي والبشري. إن معرفتنا، بالتالي، معرفة كلية في الباطن؛ وما تجمُّع علومنا ومعارفنا إلا الشكل الظاهر لعملية داخلية تتم على كياننا ككل.
فمنذ اختراع الإنسان للأداة الصوَّانية، أي منذ تمرُّسه في المعرفة التجريبية والاختبارية والتطبيقية، كانت معارفُه كلُّها تصب دائمًا في بوتقة نضجه النفساني وتفتحه العقلي وتطوره الروحي. فكلُّ اختبار جديد كان يؤدي إلى تكوُّن نفسانية جديدة، قادرة على تقبُّل الإطار والمعنى الجديدين، كما وإلى تفتُّح عقليٍّ قادر على تذهُّن الخبرة الجديدة
إن هذه المعرفة الداخلية هي وجودنا كلُّه – وعَينا ذلك أم لم نَعِه، قَبِلنا ذلك أم لم نقبله. فصيرورة حياتنا تقوم على وحدة الظاهر والباطن. وصيرورة حياتنا هي معرفتنا المتجددة. إنها السرُّ الذي لا تنفصل فيه الفيزياء عن الميتافيزياء، ولا المادة عن الوعي. لقد أدرك الإنسان عِبْر العصور هذه الحقيقة: أنه لا يمكن تجيير المعرفة إلى شكل دون آخر، مادي صرف، أو تجريبي، أو عقلي، أو روحي. وسنرى إلى استمرارية هذه الرؤيا الإپستمولوجية حتى يومنا هذا، على الرغم من عدم اعتراف غالبية الناس بذلك
المدارس العرفانية
إن تاريخ الإنسان الحق هو تاريخ أنماط معرفته. وهذا التاريخ يغيب في عَماء الأحداث التي تشير غالبًا إلى الجهل والأنانية. ومع ذلك، يمكن لنا دومًا أن نستشف صيرورة تاريخنا المعرفي، أي تاريخ تطورنا وتفتحنا، ليس من “الأحداث” بالدرجة الأولى، بل من الإمكانات والتحولات التي عبق بها كلُّ عصر. فعلى الرغم من الفترات الطويلة التي يبدو أن تطور الإنسان توقف عندها، نلاحظ دومًا تلك “الانعطافات” الحاسمة التي كانت تأتي لتؤكد على صيرورة داخلية تحضِّر، بعد استيعاب طويل للخبرات الخارجية، لظهور إمكانات جديدة
وهكذا فإن التحول المعرفي لا يرتبط في النهاية بفرد أو بجماعة: إذ هو سلسلة متصلة من الإمكانات المتفتحة في استمرار؛ مما يتيح الفرصة دائمًا لولادة معرفة جديدة. وهكذا، عِبْر كلِّ حقبة، كان ثمة دائمًا إمكان لإدراك المعاني القصوى التي تندرج في إطار الخبرات الذاتية والآنيَّة. وعِبْر العصور كلِّها، كان ثمة صيرورة تجمع وحدة هذه الأنماط المعرفية في رؤيا كلية، باطنة وظاهرة في آنٍ واحد. وتتمثل هذه الصيرورة في المدارس العرفانية التي لم يخلُ منها شعب، ولا عصر، ولا ثقافة
لقد وصلنا عددٌ كبير من الأفكار غير الدقيقة عن هذه المدارس السرَّانية، واختلطت الخرافةُ والشعوذةُ بتعاليمها في أحيان كثيرة. ويمكن لنا القول إن تعميم هذه المعارف وإشاعتها كان يؤدي غالبًا إلى تَراجُعها الفعلي وإلى تحوُّلها إلى أنماط مختلفة من التفاسير التي لا تنتمي، لا من قريب ولا من بعيد، إلى السرَّانية الحقيقية. ومع ذلك، فإن البُعد العرفاني ظل محفوظًا وماثلاً في سياق الصيرورة من خلال الرمزية والتجربة المتجددة
يرجع هذا العرفان Gnosis إلى وقت كانت اللغةُ فيه كلُّها رمزًا؛ إذ لم تكن هذه وقعتْ بعدُ في فخِّ التعبير المباشر. إن التعبير عن نماذجنا النفسية والذهنية يصعب حصرُه في مفردات لغاتنا المعاصرة: فقد فقدت هذه اللغاتُ حيويتَها التصويرية والنغمية، وأغرقت في البناء القواعدي والتراكيب اللسانية. ولا يمكن، بحال من الأحوال، نقلُ النموذج البدئي فقط من خلال الكلام عنه. فالنموذج المتفتح فينا (أي معرفتنا المتفتحة فينا) ينبثق لفظًا وصورةً ورقمًا. أي أن اللغة العرفانية تشتمل على ظاهر تصويري وعلى باطن تناغمي. وأداء اللفظ أداءً صحيحًا يتطلب إمكانية المُناغَمة بين الاهتزاز الصوتي وبين الإيقاع اللحني، بما يوافق تفتُّح المعنى (النموذج البدئي) فينا[1]. وهكذا، يكون قولُنا معرفةً، ونطقُنا انسجامًا مع حقيقتنا المتأصلة فينا
عندما نقف أمام هيروغليفيات المايا الرقمية فإننا ندهش لتعقيدها وكمالها في آنٍ واحد. وتزداد دهشتنا عندما نعرف أنه كانت لدى هذا الشعب أشكالٌ رقمية أخرى بسيطة جدًّا. فلِمَ كان لديهم هذا الشكلان الرقميان؟ هذا ينطبق على سائر حضارات العالم القديم وشعوبه. قد يكون هذا السؤال منفَذًا لنا للحديث عن سرَّانية هذا العرفان بلغتنا اليوم. فإن كنَّا لا نريد الدخول في متاهة تاريخ تراكمي من الأحداث، يمكن لنا القول إن وجودنا كلَّه تشكَّل وفق هذين النمطين من الأشكال أو النماذج البدئية، البسيطة والمعقدة، الظاهرية والباطنية. فوجودنا، في حدِّ ذاته، لغة وأرقام: لغة حية، وأرقام تحمل ديناميَّة الظاهر والباطن. وكما يقول الفيثاغوريون، فإن الوجود نغمٌ ورقم: النغم يشير إلى التناغم، والرقم إلى المعنى. ولهذا يرى إخوان الصفا أيضًا إلى وجودنا، في ظاهره وباطنه، لغةً من الأرقام والتناغمات
لا تتوفر لدينا دومًا وثائق كافية تشير إلى صيرورة نشوء هذه المدارس السرَّانية واتصال بعضها ببعض. ونحن لسنا مع القائلين بوجود اتصال مباشر كان قائمًا بينها في مختلف الأقطار والعصور: فليس من الضروري، مثلاً، أن يكون عرفان مصر القديمة قد تلاقَح مباشرة بعرفان سومر أو الهند؛ وليس من الضروري، بالمثل، إثبات وجود آثار بابلية أو أورفية أو حتى هندوسية في الفيثاغورية. وقد لا يكون من المجدي أن نرى إلى خطٍّ متصل بين الفيثاغورية والأفلاطونية والغنوصية، وصولاً إلى المانوية ومدرسة حران والعرفان الإسلامي، ممثلاً هنا بإخوان الصفا. إذ إن هذه الرؤيا المتحررة من قيد التاريخ “الحَدَثي” قد تساعدنا على تلمُّس “عرفانية” حديثة في قلب علومنا المعاصرة. وكم سيدهشنا عند ذاك أن نرى إلى توافُق رمزيٍّ ومعنوي هائل بين هذه المدارس كافة، على الرغم من اختلافات تفسيرها وتأويلها. من هنا فإن ما يستحق فعلاً أن نقف عنده هو وحدة التجربة العرفانية عِبْر العصور
كان ارتقاء المريد في هذه المدارس يتدرَّج وفق تراتبية متناغمة مع تراتبية كونية. والحق أن الانتقال من رتبة إلى رتبة أعلى كان يوافق “طقسًا أسراريًّا” initiatory rite يتم من خلاله إطْلاع المريد على أسرار جديدة صار قابلاً لمعرفتها. وهذه المعرفة المتدرِّجة كانت معرفة كلِّية تقوم على بناء نفس وعقل سليمين في جسم سليم. وبهذا فإن الأخلاق لم تكن غير هذه القابلية المتجددة للمعرفة الأعمق فالأعمق. لذا كان العلم أداة معرفية، ولم يكن المعرفة كلَّها. وفي المقابل، فإن الأسرار لم تكن تُمنَح لِمَن لا يستحقها نفسيًّا وروحيًّا
ونجد هذه التراتبية عند الفيثاغوريين وإخوان الصفا. وأحيانًا يمكن لنا أن نطابق بين شروط المُسارَرة Initiation في كلا المدرستين. لكن ما يمكن لنا أن نقف عنده في تمعُّن أكثر هو الغموض أو “السرية” التي تكتنف كلاً من شخصية فيثاغوراس وأصحاب رسائل إخوان الصفا، على حدٍّ سواء
وفي الحقيقة، يمكن لنا تعميم هذا “الغموض” على جميع مؤسِّسي هذه المدارس، عِبْر العصور كلِّها. ولعل السبب لا يكمن فقط، كما يشير معظم الدارسين، في تأثير هذه التعاليم على الواقع الاجتماعي والسياسي. فهرمس Hermes، صاحب المعرفة والعلم، طبيب الروح والجسم، يتكرَّر بصفاته السرَّانية عِبْر هذه المدارس بأشكال مختلفة. فهو تعبير في النهاية عن حاجة قائمة في المجتمع في استمرار إلى وجود العارف المستتر حاجته إلى وجود العارف الظاهر. وبهذا العرفان الخفي، المتصل بالمعرفة العامة، يتحقق توازُن صيرورة المعرفة الكلِّية، فلا ينقطع التناغمُ بين الداخل والخارج
ويمكن لنا أن نمضي قُدُمًا في هذه الفكرة، فنقول إن وجود المدارس السرَّانية، بأسرارها وتعاليمها التي لم تكن تذاع كاملة، كان حاجة أساسية لدى الجماعات لمُوازَنة معارفها الظاهرة مع معارف باطنية قائمة فيها. وهكذا فإننا نرى إلى استمرارية هذه المعارف السرَّانية كبُعد يقيم توازُن المعرفة الإنسانية ويحقق انفتاحها وعمقها
الهرمسيَّة والأسرار
تحكي الأسطورة عن هرمس جاء في عصر من العصور، بل كان موجودًا في العصور كلِّها. وكان هو الحكيم العظيم الذي يؤسِّس المدنية، ويخترع الكتابة، ويعرف الطب، ويكتشف العلوم. كان قد جلب إلى مصر المعرفة في عصر مغرق في القدم، منذ ما قبل الطوفان. ومنذ ذلك الوقت لم يغب حضورُه عن كلِّ إشعاع معرفي وروحي يتحقق في كلِّ عصر أو حضارة
ويمكن لنا القول إن الهرمسية متأصِّلة في التعاليم والمدارس السرَّانية كافة، بوصفها ذاك الجانب المعرفي الباطني الذي يمكن له أن يتحقق بالتفتح الروحي وبالعلم والخبرة. ولا شك أن هذه الهرمسية بالذات وجدتْ لها صدى عظيماً في العرفان البابلي والفينيقي، كما وفي العبادات الشمسية الهلِّينية والرومانية، بعد أن تجددت مع “أسرار” دلفي والعرفان الأورفي في اليونان. وتُعَد الفيثاغورية دعوةً هرمسية بقدر ما يمكن لنا أن نرى في فيثاغوراس “هرمس” جديدًا.
ولئن كانت هذه الهرمسية قد انتقلت من خلال الغنوصية المسيحية إلى أوروبا، عِبْر مدارس سرَّانية عديدة، فقد انتقلت إلى المشرق أيضًا عِبْر مدارس كثيرة، كانت قد تمثَّلتْها منذ القديم، فأعادت إحياءها وتجديدها.
كان صائبة حران يُرجِعون عرفانهم إلى هرمس. وقد وضع أشهر أطبائهم، ثابت بن قرة، كتابًا بالسريانية في تعاليم هرمس. وكان المانويون يعدون هرمس أحد حكماء خمسة سبقوا ماني. وعِبْر المانوية، دخل هرمس العرفان الإسلامي، حيث موهِيَ بينه وبين النبيين أخنوخ وإدريس. وقد أشار أبو معشر إلى عدة “هرامسة”، أقدمهم النبي إدريس الذي عاش قبل الطوفان في مصر، فعلَّم الكتابة وبنى الأهرام[2]. وقد أعلن السهروردي وابن سبعين الكثير من المعرفة الهرمسية. وكان الكندي معجبًا، بحسب تلميذه السرخسي، بما قاله هرمس حول التعالي الإلهي. ويحصي ابن النديم في الفهرست اثنين وعشرين مؤلفًا هرمسيًّا تُرجِمَت إلى العربية. ومن أهم الكتب الهرمسية في الثقافة العربية كتاب سر الخليقة وصنعة الطبيعة الذي تُرجِمَ على يد مجهول منسوبًا إلى أپولونيوس التياني، إضافة إلى مؤلَّف غاية الحكيم، الذي يُعزى خطأً إلى مسلمة المجريطي، وهو يتضمن، إضافة إلى المعلومات العامة في الكهانة الفلكية للصابئة، مبحثًا في الطبيعة لأرسطو.
ترتكز تعاليم إخوان الصفا على هذه الهرمسية العريقة التي تقول بأن الحكمة يمكن أن تحلَّ بنزول ملاك أو تُنال بارتقاء روحي حتى الإشراق الإلهي وتحقيق الطبيعة الكاملة أو الجوهر الروحاني: إنه “مَلَك الفلسفة” الذي يقود إلى الحكمة، كما يرى السهروردي ومدرسته “الإشراقية”. كما أنها محجَّة الملحمة السرَّانية التي رواها فريد الدين العطار في منطق الطير. ومع انتهاء دور الصابئة، مع آخر قادتهم حكيم بن يوشع بن مروان (ت. 944 م)، استمر تأثير الهرمسية عِبْر الذين أخذوا عن المانوية أيضًا، من أمثال الشلمغاني وذو النون المصري والحلاج. إنها السلسلة الإسنادية نفسها التي قال بها السهروردي من الحكماء والتي ترجع إلى هرمس
وقد عبَّر إخوان الصفا عن ذلك بقولهم إن الإنسان هو “العالم الصغير” الذي وُجد على مثال “العالم الأكبر”. فهو مكلَّف، إذن، تنظيمَ العالم الأدنى الذي يتربع على قمته. ويتم هذا التنظيم عِبْرَ الإمام، وهو التجسد الكامل للإنسان البدئي، الرئيس الأعلى للبشرية. وهذا “الإمام” لا يسلك إلا بفيض العقل الكلِّي، فيعمل على ردِّ النفوس الساقطة إلى مرتبتها الإلهية. وهكذا فإنه يحرِّر نفوس العالم الأرضي، لتعود إلى نقائها الأصلي، فترتفع بعد موتها إلى الأفلاك السماوية؛ في حين أن النفوس التي لا تخلص تبقى في هذا العالم وتتحول إلى شياطين
فيثاغوراس في مصر: يروي ما وصلنا من سِيَر الحكيم الإغريقي أنه مكث في مصر ردحًا من الزمن وتعلَّم أسرارها قبل أن يؤسِّس مدرسته السرَّانية في كروتونا صقلية
كان هدف الأخوية الفيثاغورية جذب المريدين القادرين على استلهام الأسرار وحفظها. وكذلك كانت رسائل إخوان الصفا تهدف إلى جذب هؤلاء المتميزين من الناس، القادرين على سَبْر معانٍ فيها تحملهم خطواتٍ أبعد في عالم المعرفة، إلى ما وراء حدود الطقس والحرف. وكان ذلك يتم في المدارس السرَّانية بتحرير روح المريد الذي يحيا على المثال الإلهي
المُسارَرة ودرجاتها
كان السرَّانيون، بحسب، يمبليخوس هم المريدين المقبولين، بعد اختبارات كثيرة، لتلقِّي التعليم السرَّاني مباشرةً في المدرسة الفيثاغورية. وكان ذلك يتم عبر تطهُّرات كثيرة وفترة صمت تدوم خمس سنوات. وفي القرن الرابع، صار المصطلح يشير، عند أفلاطون كما عند أرسطو، إلى العقائد فقط. واتصفت فلسفة أفلاطون بظاهر مطروح للجميع في الحوارات المعروفة، وبباطن أكثر تجريدًا وعقائدية، كان يشكل سرَّانية مستلهَمة من الفيثاغورية والرمزية العددية. وقد قسَّم أرسطو نفسه مؤلَّفاته إلى باطنية وظاهرية. ومنذ ذلك التاريخ، اتصف كلُّ مؤلَّف عقائدي بمعنيين، ظاهر وباطن؛ وكما يقال، كان هذا المعنى الباطن نفسه يحتمل معنى باطنًا أيضًا، إشارةً إلى تدرج السرَّانية في العمق
ويجب هنا التمييز: إن مصطلح السرَّانية لا يشير إلى معنى “الغيب” المتعارف عليه. فالدراسات الأسرارية تتصف بخصوصيات مدارسها، وهي عمومًا أدخل في باب “الفن” منها في باب العلم (المناهج النقلية)، مثل الخيمياء والتنجيم والسحر. وقد أجْمَلَها العرب الموسوعيون في هذا الباب: فتعبير “صنعة النجوم” يشير، مثلاً، إلى فن التنجيم، في حين أن “علم الأفلاك” يشير إلى علم الفلك
وهكذا، كان لهذه التعددية في المعنى الروحي، المستتر وراء الشكل الحرفي، تنوعٌ مقابل في نمط الإيمان والمعرفة، وذلك أيضًا بحسب درجة مُسارَرة المريد. وكانت المُسارَرة، بالتالي، تشكِّل بُعدًا نفسيًّا لا غنى عنه لتأسيس الشكل الديني للمعتقد؛ لكنها، في المقابل، كانت تقوم حاجزًا أمام تعميم التعاليم ونشرها. وأدى ذلك دومًا إلى تعارُض العلوم النقلية مع العلوم العقلية والعرفانية. ويمكن تفسير ذلك على أنه ظاهرة طبيعية بشكل من الأشكال، مادام للألوهة جانب باطن خاص بها وآخر ظاهر يتجلَّى في الكتب المقدسة أو في الكون نفسه. ولهذا فإن إقصاء السرَّانية عن تفسير رمزية المعتقد يشكِّل شرخًا يماثل إحجامنا عن دراسة قوانين المجتمع والطبيعة اليوم
كذا فإن بلوغ الحقيقة يتطلب تنقية النفس، أي يقتضي تعليمًا أخلاقيًّا وعقليًّا متدرجًا. ويتوَّج ذلك بالعلم، حيث يتم الولوج من المحسوس إلى المجرد. وعندئذٍ تستطيع النفس التعرف إلى أبعادها، فتعرف ذاتها وترتقي من رتبة إلى رتبة أعلى فأعلى، وصولاً إلى معرفة العقل الكلِّي، فترى في نقائها العالم الحقيقي وتصبح قابلة لتلقِّي إلهاماته. لكن لا يمكن لإنسان مفرد، إذا لم يكن قد بلغ مستوى معينًا، أن يحقق هذا الارتقاء الذي هو، في الأصل، ارتقاء تدريجي وجماعي. ويتطلب هذا التدرُّج تراتبية أسرارية على رأسها إمام، حيث ترفع كلُّ رتبة الرتبةَ التي تليها إليها
وعلى مستوى أشمل، ثمة متتالية من الأدوار تتيح للإنسانية، خلال كلِّ دور من أدوارها التطورية، إمكان الارتقاء إلى رتبة جديدة. وتشكِّل التراتبية الإنسانية، كما عند الفارابي مثلاً، ثلاث مراتب أساسية، تنقسم بدورها إلى سويات عديدة. وتقابل هذه الأدوار دائمًا أربع رُتَب من المُسارَرين، ثم المسلِّمين، ثم العامة، في حين يمثل النموذج البدئي الأصلي للإنسان، مع أرواح الحكماء والأئمة والعارفين والأنبياء، “المدينة الروحية”
وبشكل موازٍ، فإن عمر الكون الطويل ينقسم إلى أدوار فلكية من سبعة آلاف سنة لكلِّ دور؛ وينقسم كلٌّ منها بدوره إلى سبعة آلاف أخرى، ويحل في كلِّ دور رسولٌ جديد. ومع نهاية الدور السابع الصغير، يبدأ التحضير لدورة كبرى جديدة، ومعرفة ورسالة جديدة، وهكذا دواليك، حتى نهاية العالم و”القيامة الكبرى”، حيث تذوب الأرواح الفردية في الروح الكلية. ويشكِّل تتالي الأدوار الصغيرة والكبيرة، التي يتخلَّلها ظهورُ الأئمة والمُسارَرين، نظامًا محددًا يوجِّه صيرورةَ المعرفة الظاهرة والباطنة عبر إيقاع الظهور والاحتجاب
وبحسب إخوان الصفا، فإن الكشف الذي يمكن لجماعة ما أن تحقِّقه كان لا بدَّ أن يضم علوم كافة الجماعات التي سبقتْها ومعارفها. وهذا التأليف المتجدد كان موجودًا في المدارس السرَّانية القديمة كافة، وبخاصة في الفيثاغورية، التي كانت تعمل دائمًا على دمج العلوم الرياضية والموسيقى في علومها الباطنية
ويقسم إخوان الصفا تنظيمهم وفقًا لترتيب يوافق أربعة مراحل بحسب التحقيق الروحي المتنامي مع سني العمر، الأمر الذي يحول حجَّ المريد إلى حجٍّ للحياة بكاملها إلى “كعبة” الروح والعرفان. فالشبان (بين 15 و30) يسلكون وفق القانون الطبيعي، والرجال (من 30 إلى 40) يتعلمون الحكمة الدنيوية والعلوم الحسِّية؛ وبدءًا من سن الأربعين يصبح المريد قابلاً للاطِّلاع على الحقيقة الروحية المخفية؛ وما بعد سنِّ الخمسين يصبح قادرًا على رؤيا هذه الحقيقة الروحية في الأشياء كلِّها، ويكون نمط معرفته عندها ملائكيًّا. ونرى في هذه التراتبية التراتبيةَ السرَّانية في الهرمسية والفيثاغورية عينها، كما وعند الصابئة وغيرهم
وتكشف الرسالة الجامعة لإخوان الصفا عن أصل هذه التراتبية من خلال قصة آدم. فقد وُجِدَ آدم الروحاني على الأرض، بعد أن وُجِدَ قبله آدم البدئي، فنادى الأنوار القدسية، فتشكَّلت بذلك فيوض العقل الثاني. ومن هذين “الآدمين” الأولين ولد آدم الذي عُرِفَ وجودُه، وهو النموذج البدئي للبشرية. لقد رفض آدم الأخير الحدَّ الذي سبقه، واعتقد بقدرته على ولوج المبدأ المتعالي دون هذه الرتبة الوسيطة: فبجهله لسرِّ ثنائية الكشف البدئي وصدور الاثنينية عن الواحدية، اعتقد بإمكانية مطابقة رتبته مع المبدأ المبدع. وعندما استطاع التخلص من هذا الوهم و”الصنمية” الميتافيزيائية، كما لو أنه استنهض في نفسه جبريل ليبشِّره بنصره، أبعد عنه ظلَّ إبليس، فدخل من هذا الدور في دور باطني – وهذا ما أدى إلى ولادة الزمن في الخلق.
ويماثل ذلك، إلى حدٍّ كبير، أسطورة الخلق المزدكية، حيث ولد الزمان من لحظة “شك”، فتحول الوجودُ إلى صيرورة صراع بين الظلمة والنور
إن هذا النزول من الأعلى إلى الأدنى يقابله صعودٌ من الأدنى إلى الأعلى عِبْر دورة كلِّية يتحقق بها الوجود. ويُعَد توافق التراتبية الأسرارية مع الأدوار الكونية شرطًا أساسيًّا للمعرفة. ذلك أن العرفان ينتهي إلى التواحد مع صيرورة الوجود، وليس كما نتصور اليوم إلى مجرد تشكيل نظريات حول الطبيعة والكون
صيرورة الصدور والتحول
ترتكز العلوم السرَّانية على مبدأ التحول. وينعكس هذا المبدأ في التناغمات على مستويات الوجود كافة، ويتم التعبير عنه من خلال لغة الأعداد. فالعرفان القديم لم يكن قائمًا على اللغات الأبجدية إلا بقدر ما كانت هذه الأخيرة تُفسَّر بلغة الأعداد والتناسبات. إن العدد يعكس شكلانية نفسية وروحية. وهو في أصله “صفر” (عدم)، بمعنى الشكل الدائري الفارغ القابل لاحتواء كافة الموجودات والأنماط. فأي تشكُّل عددي كان يشير إلى انبثاقات من الدائرة التي تتركز في مركزها. فكل حرف أو اسم أو تعبير يشير إلى عدد، هو مغزاه وعلَّة وجوده؛ و”التسميات” ليست، بالتالي، إلا انعكاسات للمعنى الذي تحمله الأشياء في ذاتها
كذا فإن هذا الكشف كان يشير إلى إيجاد الصلة المباشرة مع أنماط وجودنا البدئية، وكيفية انبثاقها وتشكُّلها ونموها، ومن ثم كيفية العودة من خلالها إلى النموذج البدئي الأولي. وهذا ما يدعى بصيرورة الصدور عن الواحد، والتحول في النماذج، ثم اكتشاف الوحدة من جديد عِبْر كلِّية هذه النماذج وأصلها المشترك
ولا شك أن بناء نظام عددي كان يتناسب، بالتالي، مع نفسانية الجماعة، من جهة، ومع الأنماط الأساسية التي تقوم عليها معارفُهم وخبراتُهم، من جهة ثانية. وهذا يعني أن النظام العددي كان يهتم، بالدرجة الأولى، بتفسير تعددية الوجود في أنساق النماذج البدئية. فالنظام الستيني عند السومريين، مثلاً، كان يشتمل على تقسيمات الستة والعشرة. ولا يمكن لنا تفسير ذلك إلا بالقبول بأن نمطهم الخاص تشكَّل وفقًا لهذا النموذج المركَّب؛ وعليه، يصير في الإمكان تفسيرُ تقسيمات الپانثيون (مجمع الأرباب) السومري، كما والأدوار الفلكية التي كانوا يعرفونها
إننا لا نستطيع، بالتالي، نفي صحة مثل هذه المنظومة المعرفية اعتمادًا على تقدم خبراتنا وعلومنا فقط. فنحن أيضًا نبني نظام معرفتنا ليس فقط على ما تقدِّمه لنا الاكتشافات والأبحاث، بل وعلى تفتُّح نماذجنا المعرفية الخاصة بنا في هذا الدور. إن صيرورة التحول والتجدد في المدارس العرفانية تأخذ في حسبانها، بالدرجة الأولى، أهميةَ تطوير المنظومة النفسية والعقلية وتفتُّح قدراتها. فما يهم ليس المعرفة، كبناء نظري أو تقني يمكن الإفادة منه، بل وحتى ليس المعرفة الرمزية، بما هي حامل لباطن معرفي. فخلف أيِّ نموذج معرفي هناك الإنسان الجديد الذي يولد ولادة مستمرة مع النماذج المعرفية الجديدة. وسيجد هذا الإنسان دائمًا وسيلته الخاصة لقياس نموذجه المعرفي على خلفية النماذج البدئية المتفتحة فيه
مثال ذلك ما كان يقوله الفيثاغوريون من أن الأعداد الفردية إلهية، والزوجية أرضية وأصل التمايز والتضاد[3]. إن منطقنا اليوم لا يقبل بمثل هذا الطرح. ومع ذلك، فإننا نرى إلى عمق ما يقول به الفيثاغوريون من أن الثنائية كانت الحالة غير الكاملة التي وقع فيها أول كائن متجلٍّ انفصل عن الأحدية، مما أدى إلى نشوء الدربين الصالح والطالح. فنحن اليوم لا نستطيع في فيزيائنا الحديثة – نموذجنا المعرفي بامتياز – إنكار ولادة هذه الثنوية من انكسار تناظر أولي
وفي عمق الدراسات السرَّانية، تُماثِل صيرورةُ الصدور من الواحد صيرورةَ التحول من العشرة. فكلا الطريقين يتحققان في معرفة جديدة. إنه مبدأ التوازن في الدورة الكلِّية، حيث تكون الوحدةُ قانونَ الأشياء ومبدعها
إن رمزية الأعداد تكتسب معنى خاصًّا جدًّا ضمن هذا المنظور. فكل عدد هو نموذج أولي لتشكيل من تشكيلات الوجود. وكلما تضاعفت الأعداد وكبرت، أشارت إلى مظاهر الكون المعقدة والمتشابكة أكثر. ولهذا يمكن اختصار الطريق الطويل واللانهائي للصدور بمسافة رمزية بين الواحد والعشرة. فالكون مادي وروحي في آنٍ واحد، ومتضمَّن في التشكيلات العددية، ظاهرةً وباطنة؛ وهذه كلها تتركز في العُشار الفيثاغوري. وتمثل العشرة تمام خلق الكون في صيرورة تطوُّره في قلب الصمت، حيث تتمخض النفس الروحية وتولد
وفي الطاوية، ولد الواحدُ الاثنين، ومنهما ولد الثلاثة، ومنه ولد العشرة آلاف كائن. وتعود العشرة آلاف لتجد توازُنها في الـيِن والـيَنْغ، وفي وحدة الطاو. فالثالوث في هذه الصيرورة ذات الاتجاهين هو ميزان التحول: فهو أول عدد فردي في نظر الفيثاغوريين، الذين يرون أنه رقم إلهي. ونجد الأمر نفسه عند إخوان الصفا، كما وعند جابر بن حيان، لرفع مبدأ الميزان إلى مبدأ ميتافيزيائي. فكلُّ علم أو فلسفة هو ميزان. وبالتالي، فإن العرفان هو الميزان المستقيم. وتلك إشارة إلى معرفة يتم من خلالها تحقيق الحق وبلوغه. ويتم ذلك عند المريد وفق شكلين: فصيرورة الصدور تحلُّ في العالم الصغير، أي الإنسان، نزولاً من العالم الكبير. ويوازي هذا “النزول” ارتقاءٌ يتحقق بواسطة علم ذي وجهين: وجه ميتافيزيائي مجرد، وآخر مادي وحسي. وفي درجات المُسارَرة المتقدمة، يتحد العلمان، وتتكشَّف أسرار العشرة كلُّها، ويتحول العلم إلى وحي، والميتافيزياء تصبح كشفًا
وفي هذا المنظور، لا ينفصل العلم عن صيرورة الصدور والتحول. فمنطق العلم الأول إلهي، تنتج وفقًا له التعدديةُ من الوحدة، فلا تظهر فيه أرقام العشرة إلا لتعود إلى الوحدة وتغيب في الدائرة اللانهائية. أما العلم الحسِّي، فكانت العشرة فيه هي التمايز المستمر للمادة. لكن هذا التمايز كان قائمًا على كلِّية النماذج، التي لخَّصها فيثاغوراس بنماذجه الهندسية المنتظمة المنسوبة إليه. وفي هذا الإطار، يتحول العلم الحسِّي إلى سَبْر للنماذج البدئية في الظاهرات، حيث تشتمل الطبيعةُ على سبعة نماذج أساسية، يقابلها مفهومٌ سباعي آخر على مستوى العلم الميتافيزيائي، وهو رمز إلى تحقيق الكمال في عالمنا الأرضي
كذا فإن كلَّ شيء كان كامنًا في العقل الكلِّي. ومعرفتنا للأشياء يجب أن تستغرق في هذه المعرفة الكلِّية نفسها. لقد خلق براهما، بحسب قوانين مانو، “أرباب الكائنات العشرة”؛ ومنها ولدت القوى الخالقة السبع. فنماذجنا البدئية السبعة، بحسب الفيثاغورية، مصدرها تلك العشرة الأولى، التي ترمز إلى الوحدة. وهذه القوى السبع أو الملائكة السبعة أو ملائكة الوجود هي، بحسب المُسارَرة المشرقية، مصدرُ تراتبية الأنبياء السبعة والأئمة السبعة. كذا فإن الفيوض كلَّها تنشأ وفق هذه النماذج البدئية. وبالتالي، يكون طريق التحول والعودة إلى المصدر مماثلاً ويتم من خلالها. ويقابل المبدأ السابع “النازل” المبدأ السابع “الصاعد”، أي المندغم في الذات الإلهية
تمثل رمزية الأعداد من الواحد إلى العشرة صيرورة الصدور والارتقاء في آنٍ واحد. فالثنائية رمز إلى تمايُز العالم وظهور الوجود. ومن خلالها، يتم صراع التحول باتجاه الوحدة من جديد. ولا يتحقق هذا التحول إلا بتناغم الثنائية في وحدة جديدة تظهر مع الثالوث. وعِبْر الرابوع، كان يتم تحقق الثالوث في التفتح الروحي عند الفيثاغوريين. فالأربعة هي، في آنٍ واحد، رمز إلى الوجود المادي، كما ورمز إلى الخلود القائم في رُتَبِه وتدرُّجاته وبنيانه. وبالمثل، كان الثالوث أيضًا مبدأ تشكُّل الجسم الفيزيائي. واتحاد الثالوث بالرابوع كان يشير في وضوح إلى بزوغ الإنسان الكامل، الروحي والمادي، عِبْر بلوغه الرتبة السابقة. ولهذا، كان العدد خمسة يشير إلى رتبة إنسانية، رتبة تعلو الموجودات؛ ومع ذلك، كان يرمز أيضًا إلى السقوط والشر. فبالمعنى السرَّاني، تشير الخمسة إلى ولادة الإنسان حاملاً عبء النهوض بـ”أمانة” الروح والمعرفة. ويشير العدد ستة، بالتالي، إلى الأرض والأمومة والعفة: إنها الرحم الذي سيحمل الإنسان إلى كماله في السبعة. أما العدد ثمانية فهو رمز الحركة الحلزونية الأبدية للأدوار. ونلاحظ أن الستة ضعفا الثلاثة، والثمانية ضعفا الأربعة: إنهما رمزية الحركة الملتفة على نفسها، وبالتالي، رمزية التحقيق المستمر والانفتاح المتدرج للنماذج الأساسية. أما العدد تسعة فهو ثالوث الثالوث: إنه يرمز إلى كثافة الروح، ويَعِدُ بظهور الكثرة والتعدد؛ وفي الوقت نفسه، فهو الكمال بامتياز لأيِّ تحقق روحي يمكن أن يتحقق على عتبة العشرة، بما هي عودة إلى الواحد في الكثرةالعُشار = 3 + 7: صيرورة الانغلاق، بما هو صدور الوجود (السبعة) من الواحد عِبْر الثلاثةالعُشار = 9 + 1: صيرورة الانفتاح، بما هي عودة إلى الواحد في عالم التجلِّي المتكثروتشير هذه الصيرورة إلى قداسة الدرب الروحية. فكلُّ خطوة وكل رتبة تشير إلى كلِّية الوجود. وعبور هذه الدرب يتم، عِبْر كلِّ لحظة، من خلال فيض العقل الكلِّي الصادر منه وإليه
إن العشرة هي رمز الكمال، وهي الوحدة التي تعود بالكون والإنسان إلى الواحد–الكل. وكان المصريون القدماء يقرنونها بالصليب ذي العروة، الذي أخذه عنهم الإغريق والغنوصيون. إنه التاو Tau، الألف والياء في الحكمة الإلهية، التي يُرمَز إليها بالحرفين الأول والأخير من اسم تحوت، الاسم المصري لهرمس
كان تحوت Thoth مخترع الكتابة الهيروغليفية المصرية. وكان هذا الحرف يكمل الأبجدية الفينيقية أيضًا، حيث كان يدعى “الكمال”، أو “الحد” “ثيمس”، في لفظة تعني أيضًا الـ”هرمس”، الإله الذي كان يمثَّل بحدٍّ في بلاد الشام، أي بشكل غير معيَّن، وكان في إحدى المراحل ربَّ الثالوث الشمسي ورمز السكينة والسلام
كذا كانت الدورة الكلِّية تتم عِبْر هذا الوجود بحركتَي هبوط وصعود، أو انغلاق وانفتاح للكل. وتشير الأسطورة اليونانية إلى أن “پان” كان إلهًا عظيمًا وكليًّا، وكان يشير إلى الطبيعة المطلقة. لكنه، عندما مسَّه الزمن، نزل إلى رتبة آلهة الحقول الأدنى[4]. وشيئًا فشيئًا، حوَّله اللاهوت القروسطي إلى شيطان ساقط، وبات يُشار باسمه إلى الوثنية
وتقابل هذه العملية تبادلاً كان شائعًا في مجمع الأرباب البابلي، وتشير إلى رمزية التحول عِبْر كلِّ عصر معرفي. فعدد إله السماوات آنو كان الستين، رمز الكمال في نظام العد الستيني. لذا كان آنو والد الآلهة، الكامل والمطلق. أما العدد خمسين فكان يشير إلى ربِّ الأرض إنليل، والعدد أربعين إلى إله المياه إيا. ومع ذلك، كان يمكن لكلا العددين أن يحلَّ محلَّ الستين في حركة صعود وتحول، بحيث كانت تتم دوراتٌ زمنية محدَّدة تُوافِق تغيرًا معرفيًّا ومعيشيًّا ملموسًا
تمثيل هيروغليفي لإله الطبيعة پان، بوصفه كبير الآلهة جوفيس (جوپيتر)، ممسكًا بمزماره السباعي متصلاً بالأفلاك الكوكبية السبعة، يرمز إلى كلٍّ منها معدنٌ من معادن الخيمياء السبعة
ولكن، مع أن پان عُدَّ “الإله الساقط”، فإن مزماره السباعي (رمز القوى السبع في الطبيعة والأفلاك السبعة والعلامات الموسيقية السبع) كان يشير في وضوح إلى صفته البدئية. ويشير ارتباط العدد سبعة بالصليب، رمز التقاء العالمين الروحي والمادي، الثلاثة والأربعة، بالإضافة إلى الدائرة، أهم الرموز السرَّانية، كما وأهم الرموز البدئية في نفوسنا
كان هذا التحول في الرمزية العددية يشير إلى فترات “انعطاف” في صيرورة التطور المعرفي الإنساني. وكان الفيثاغوريون أنفسهم عرضةً لمثل هذا التحول عندما كانوا ينظرون إلى الثالوث، حينًا، كرمز إلى عالم الروح (الآب والأم والابن)، ثم كرمز إلى العالم المادي، بعناصره الثلاثة (الهواء والماء والتراب)، حينًا آخر. ومع أن هذا الجانب لم يؤخَذ به كثيرًا، لكنه يشير بالتأكيد إلى “انقلاب” حصل في رؤية العالم الروحي التي كانت ترتكز على الرابوع قبل أن يحلَّ الثالوث محلَّه. ومع أن كارل غ. يونغ يجد الموازي النفسي لهذا التحول الرمزي، لكن علينا ألا نقع في فخِّ تفسير الأمور بحرفيتها. وقد فسَّر الفيثاغوريون الجُدُد والغنوصيون هذا التحول تفسيرًا صحيحًا: لقد تمَّ الفيض أساسًا وفق مبدأ الثالوث؛ ولكن ثالوث الروح يقابله ثالوث العالم المادي. أي أن الدفق البدئي كان سادوسًا، أو ثالوثًا مزدوجًا، تقف على ذروته الأحدية الأولى؛ وقد شكَّل ذلك سباعية وليس رابوعًا. وهذا النموذج النفسي لنماذجنا البدئية يشير إلى طاقاتنا الروحية والعقلية والنفسية كافة، في صيرورة تفتحها الواحد والكثرة
“كيف يمكن أن يكون الكل واحدًا، وأن يكون كلُّ كائن واحدًا في ذاته؟” إن هذا السؤال هو منطلق العرفان في مدارسه كافة. ولهذا السؤال الأورفي الأصل جواب بسيط: ليس لوحدة الكون أن تكون بهذا الغنى لو لم تكن مؤلَّفة من كينونات تتضمن كل واحدة في ذاتها قانون الكل. ومع ذلك، فإن الواحد غير قابل للتفكر وللإثبات مثل التعددية نفسها. ذلك ما يبرهن عليه أفلاطون في أولى فرضيات پرمنيدس. وقد أخذ عن پرمنيدس هذا كبار شارحي الأفلاطونية، مثل أفلوطين (القرن الثالث ق م) وفرفيريوس ويمبليخوس (القرنان الثالث والرابع) وپروكلوس (القرن الخامس) ودمسكيوس (القرن السادس) وإريجينيس Erigènes القرن التاسع
“الجوامد” الأفلاطونية (الفيثاغورية) الخمسة: أ. رباعي الوجوه، ب. ثُماني الوجوه، ج. ذو العشرين وجهًا، د. المكعب، وهـ. ذو الاثنَي عشر وجهًا”الجوامد” الأفلاطونية وفي داخل كلٍّ منها العنصر الخاص به: رباعي الوجوه: ناري؛ المكعب: ترابي؛ ثُماني الوجوه: هوائي؛ ذو العشرين وجهًا: مائي؛ وذو الاثنَي عشر وجهًا: أثيري، سر السماوات.
وفقًا لتفسيرهم، فإن الكائن هو كلِّية في جوهره. والأصل لا يمكن أن يكون كلاً، حتى وإن كان مكثفًا تكثيفًا لانهائيًّا؛ وبالتالي، لا يصح أن ننسب إليه الوحدة، بما هي مقابل للتعددية؛ وبالتالي، فإنه لا يمكن أن يكون مطلقًا. وعندئذٍ لا يكون الواحد سوى رمز، لكنه يصبح الصورة الأولى للمبدأ أو للأصل. إن هذا التمييز بين الواحد والمبدأ يرجع إلى الفهم الفيثاغوري الذي استمر من خلال الفيثاغورية الجديدة والأفلاطونية الجديدة. فللواحد علاقة وثيقة بالأعداد. ومن هنا (وليس من التشكيلات والتماثُلات الممكنة)، استنتج الفيثاغوريون الفيض الكلِّي للأشياء من أصل وحيد. فإذا كانت الأشياء مقترنة بالأعداد، وإذا كانت الأعداد كلها مولَّدة من الوحدة، الجوهر الفرد، ومن الثنائية، غير المحددة، المولودة هي نفسها من مبدأ وحيد، فيمكن الاعتقاد بأن كلَّ شيء ينطلق من الواحد ليعود فينحل فيه
فالعدد، في نظر الفيثاغوريين الجُدُد، هو الواحد الذي يتضاعف والكثرة التي تتواحد بالوحدة المتشكِّلة لتعطي الكلِّية. وهكذا تظهر ولادة العدد ككشف لقانون الكون والفكر. فنقطة المبدأ، أي الواحد في الرمز الرياضي، لا يتكشف إلا في حضور سرَّاني. وهكذا تكون صيرورة المعرفة هي صيرورة تكشُّف الواحد في الكائن
صفحتان من مخطوط قديم لـرسائل إخوان الصفا وخلان الوفا: على اليمين الصفحة الأولى الاستهلالية، وعلى اليسار صفحة من بداية الرسالة الأولى من القسم الرياضي في العدد
ويؤكد إخوان الصفا على أن الله، الواحد الأحد، لا يُدرَك إلا من خلال صفات مخلوقاته، أي من خلال الكثرة، التي تتألف من عدة حدود ومراتب. فمن الواحد أعطى الفيضُ الإلهي العقل الكلي، أو “العقل الفعَّال”، وزوَّده، في الوقت نفسه، بالأنماط البدئية للخلق. وأدى فيض العقل الكلِّي إلى ولادة النفس الكلية، فنقل لها الأنماط البدئية بحسب حاجاتها. من هذه النفس خرجت الهيولى (المادة الأولى). وتمايزت المادة بدايةً إلى طبيعتين، أدناهما هي الطبيعة المادية الجسمانية. وبفضل فيض العقل الكلِّي، تمايزت تدريجيًّا إلى صيغ مختلفة تشكِّل النفوس الكونية، المتجسدة أو غير المتجسدة، فأعطت العالم المادي أشكالاً على صورة الأنماط البدئية. وكانت الطبيعة مكلَّفة تشكيلََ الكائنات المركَّبة لتحلَّ فيها النفوسُ الفردية من المعادن والنبات والحيوان. وتم ذلك بواسطة تأليف وتعيين للعناصر اعتمادًا على نموذج بدئي يُمثِّل لكلِّ نوع من الأنواع. ولهذه الغاية، كان لا بدَّ من استخدام تأثير حركة الأفلاك السماوية والقوانين النجمية التي تشكِّل للنفس الأداة التي تحرِّك العالم الجسماني كلَّه. فالكون، بالتالي، هو عالم كبير، يتشكل كلُّ حدٍّ فيه أو مرتبة على غرار الحدِّ الأعلى منه ويتلقى الفيض منه
تتفق المدارس السرَّانية كلُّها على فيض الأحدية للكثرة في ذاتها. فالواحد يظل واحدًا، وإنْ تعدَّد. وهكذا فإن “الأعداد، أي الكثرة، يمكن أن تكون مصدر كلِّ شيء”. وفي هذا المنظور الفيثاغوري، لا يتم التمييز بين الوحدة حسابيًّا أو هندسيًّا أو فيزيائيًّا. وهكذا يحمل كلُّ عدد قيمة كمية وكيفية. وتكون العشرة، مجموع الأرقام الأربعة الأولى (10 = 1 + 2 + 3 + 4)، هي أساس كلِّ شيء. ومن المدهش حقًّا أن يكون هذا النمط من التفكير، الغريب تمامًا عنَّا اليوم، هو الذي أدى إلى براهين رياضية من مثال مثلَّث فيثاغوراس الشهير الذي عرفه البابليون قبله
لكن هذا يشير، في المقابل، إلى عدم انفصال التجربة المعرفية عن أقصى ما يمكن إنجازه أو اختباره، عقليًّا أو تجريبيًّا، خلال مرحلة ما. وعلى العكس من ذلك تمامًا، يمكن أن تكون بوادر أية نظرية علمية في مفهومنا الحديث قائمة في هذا الشكل من المعرفة المؤلِّف للأنماط الأولية Archetypes. أفلا يشير ذلك إشارة واضحة إلى أن علومنا اليوم ليست إلا تعميقًا لهذه الصيرورة في تفتُّح النماذج البدئية. فلعل “الوحدة” التي نبحث عنها في الفيزياء (كتوحيد قوانين الطبيعة) قائمة، إذن، في تلك التعددية التي ندرسها اليوم، فنرى إلى النماذج الأولية ليس فقط للأشياء، بل وللأفكار أيضًا؟!
إن العالم يقوم على التناغم والعدد. فكوسمولوجيا فيثاغوراس وإخوان الصفا تقوم على رؤيا فراغ غير محدود يقع خارج السماء؛ ويؤدي امتصاص هذه الأخيرة له إلى تشكل الفواصل فيه التي ليست سوى الأعداد. فالتمايز ينشأ، إذن، عن تزاوج بين المبدأ وصدوره الأول. وهذه الثنائية هي الشكل الأول للأنماط البدئية كافة
“الجوامد” الأفلاطونية: بحسب تصور العالم الفلكي يوهانِس كپلر (1571-1630)، الذي كان منجمًا أيضًا، تنطوي أفلاك السيارات الست على “الأجسام الكاملة” أو “الجوامد” الخمسة التي قال بوجودها فيثاغوراس وأفلاطون
إن رمزية الأعداد في المدارس العرفانية كافة تقوم على الاعتقاد بطبيعة حية، حيث ليس ثمة انقطاع بين العالم المادي والعالم الروحي. وهكذا، فإن الأعداد – حصيلة الواحد – هي مراحل التطور باتجاه الوحدة. ومع أن أفلاطون، ومن بعده نيقوماخوس الجَرَشي ويمبليخوس، ميَّزا العدد–الفكرة عن العدد العلمي، فإنهما لم يخرجا عن النظرة الفيثاغورية الأصيلة بأن العدد ظاهر وباطن لا ينفصلان. ويؤكد يونغ بأن الدماغ البشري لا يعمل فقط وفق مبادئ المنطق الأرسطي: فالإنسان يبتكر الأشكال والأرقام الهندسية وفق نماذج نفسانية قد لا تتعلق أبدًا بالعلاقات الرياضية. ومن هذا المنطلق، يمكن لنا حقًّا أن نتساءل فيما إذا كانت نفسانيَّتنا لا تعكس حقًّا هذه الوحدة الصادرة في البِنية الكونية
خاتمة
أردت من هذا المقال طرح سؤال بسيط: ترى، إلى أيِّ حدٍّ تُعَد معارفُنا العلمية الحديثة بعيدةً عن هذا الإطار العرفاني؟ في عبارة أخرى، هل يمكن لنا في بحثنا التجريبي اليوم التخلِّي عن بحثنا العريق عن نماذج وجودنا البدئية؟ إن علومنا الحديثة تقول عكس ذلك. ويكفي أن نتأمل قليلاً في مواضيع بحثنا لندرك أننا نبحث عن نموذج أولي للكون وللمادة وللقوى، وأننا، في سعينا إلى ذلك، لا نكتشف النموذج الأولي، بل العلاقات بين النماذج. وكلما غصنا أكثر في بحثنا، تكشَّفتْ لنا صيرورةٌ تراتبية للكون تغيب في لانهايتَي الكبير والصغير
إننا نقف دائمًا عند هذه العتبة، حيث تحملنا معرفتُنا إلى تخوم عرفاننا المتجدد. وسيكون لنا أن نعاين، عِبْر أدوار تطورنا المقبلة، مزيدًا من التفتح على نماذج أكثر بدئية في أعماقنا