كنعان بلد المكرسين الكبار (الجزء الأول)
بلد المكرسين:
كنعان… بدأ التاريخ يعرف كباراً مكرسين، عندما بدأت الحضارة، إذ لا رجال متفوقون إلا في المعرفة والعلم والأخلاق، ولما كان الإنسان الحضاري الأول قد نشأ في كنعان وهذا ما أجمع عليه المؤرخون، فلا شك بأن المكرس الأول كان کنُعَانِي.
ان تاريخ الحضارة الذي يعود إلى سبعة آلاف سنة ق.م، والذي بدأ في كنعان، وظل فاعلاً في الإنسان الكنعاني ومستمرة عبر أحداث مجتمعه ومتصلاً بحلقات من المدن الكنعانية الرائدة، من سومر 4500 ق.م. إلى أكاد 300 ق.م. إلى بابل 2200 ق.م. إلى حثّ 1700 ق.م. فمدن فينيقية: أوغاريت وجبيل وبيروت وصيدون وصور 1500 ق.م. فـ أشور 800 ق.م. فـ قرطاجة 800 ق.م. فباقي المستعمرات الكنعانية في البحر الأبيض المتوسط.
إن هذا التاريخ الذي ما زال أكثر أبطاله مجهولين، أطلع لنا ابطالاً مكرسين كباراً، سنحاول في هذا القطعة الهندسية إلقاء الضوء على بعضهم.
حمورابي 2003 – 1961 (ق . م):
حمورابي، نسبة إلى الأموربين، أبو الأموريين، حقق الحلم الذي كان يراود مخيلة ملوك ما بين النهرين، ليس فقط بالحديد والنار وإنما أيضاً بعبقريته المتوهجة، فهو أول داع إلى التوحيد ومبدع الشرائع وواضع القوانين.
ما توصل إليه حمورابي كان نتيجة حتمية لواقع الحال في عصره. إنه کنعاني متحضر، ملك المعرفة والحكمة والكمال، وملك البلاد من سومر وعيلام وبابل وأشور واكاد و بادية الشام وسائر المدن والسواحل الكنعانية.
فالنصب الخالد، والموجود حالياً في متحف اللوفر في فرنسا، يحمل نص الشريعة الحمورابية ورسم المعلم وبنود هذه الشريعة، للدلالة على قدسية القوانين و مصدرها الإلهي منذ الفي سنة قبل المسيحية وسبعمائة سنة قبل اليهودية، وضعت أسس الشريعة الإلهية ومبدأ التوحيد، والقوانين البشرية، والنظم الحياتية المدنية.
وضعها حمورابي على باب معبد الشمس، وظلت تحت الأنقاض والأتربة، بعد خراب بابل، حتى قيض لها النور عام 1901. كان المؤرخون وعلماء الدين يعتقدون أن ، زعيم العبرنين في هربهم من مصر، هو من أكبر المكرسين، لأنهم كانوا يعتقدون أنه أول إنسان وضع شريعة، ودعا إلى التوحيد، ولكن بعد أن أطل حمورابي من بين أنقاض التاريخ، عرف العلماء من فيهم رجال الكنيسة، أن هذا الكنعاني المكرس، هو الينبوع الذي اغترف موسی من تعاليمه ونقل شريعته ونسبها زوراً إلى نفسه ولإلهه يهوه. ولكن يبقى موسى في نظر البنائين مكرساً كبيراً، ولا يحل محل حمورابي المكرس الأول والأصيل.
ملكي صادق:
وأخرج ملكي صادق، ملك شاليم، خبزاً وخمراً لأنه كان كاهناً لله العلي. من مراجعة الفصل باكمله (14 تکوین) ترتسم أمامنا حياة البداوة والغزو التي كان يحياها ابراهيم، مؤسس العرق اليهودي، وبالمقابل ترتسم أمامنا حياة التمدن والحضارة التي كانت سائدة في شاليم (أورشليم) وعظمة مليكها ملكي صادق، الكاهن التقي، الكنعاني المتحضر، المكرس، الذي منح البركة والأمان لابراهيم واتباعه ليرفعهم إلى مستوى الكنعانيين، ولكن بركة ملكي صادق لم تفعل فعلها الكامل في ابراهيم ولم تتمكن من تغيير النفسية البدائية المتأصلة في العبرين.
ملكي صادق، ملك أورشليم، كاهن إيل عليون، هو أحد الكبيريم في كنعان؛ وجه کنعاني فريد التألق، بلغ اسمی درجات الرقي الروحي، وكان النقاء نفسه شفافية ذات امتاز الهي، فقيل فيه: ليس له أب ولا أم ولا نسب، ولا له بدائة أيام ولا نهاية حياة، وبذلك يشبه بابن الله يدوم کاهناً إلى الأبد. ملكي صادق رمز تراث كنعان الروحي، واستمرار هذا التراث العظيم عبر الدين المسيحي، وعبر الأجيال إلى مج يء الساعة، وهذا الوصف ورد على لسان بولس الرسول في رسالته إلى العبريين.
وما الخبز والحمر اللذان قدمها السيد المسيح ذبيحة الله العلي، واللذان يستعملها البناؤون في مقامهم، سوی رمز الافخارستيا التي يرقي عهدها إلى ملكي صادق اول من عبر عن هذا السر المقدس، المعبّر عن التجسّد والحياة والخلاص. واذا كان التاريخ لم ينبئنا بصدّيق آخر، واضح الشخصية، مثل ملكيصادق، فلا يعني ذلك أنه لم يقم في كنعان قبله كثيرون، وان ذبيحة الافخارستيا قد رسمت على أيام ملكيصادق فقط. وفي خزانة المكتشفات الأثرية في سومر، اشارات واضحة إلى ذلك.