مقالات متنوعة

قراءة لبعض نصوص نيتشه “النفسية”

ربما تثير الكلمة الأخيرة شيئا غير قليل من الشك والحيره. وربما ذكرت القارئ بالجدل الطويل الذى دار وما زال يدور حول الفيلسوف الشاعر مؤلف “هكذا تكلم زرادشت” و”أناشيد ديونيزيوس الديثرامبية”، صاحب الاسلوب المتوهج بالصور الحية. والرؤى العميقة المخيفة، والعبارات البركانية المتفجرة بالغضب والشوق، ذلك الذي “تفلسف بالمطرقة” ولم يكتب كلمة واحدة لم يغمسها – على حد قوله– في دم القلب ، هل هو شاعر أم فيلسوف؟ وهل نحسم هذا الجدل الذي لم ينته بأن نضيف إليه مشكلة جديدة فنزعم أنه عالم نفس؟

لا شك عندي في أن نيتشه مفكر وجد في التفكير وحده كل نشوته وعذابه، وبهجته ألمه، بل أن التفكير المجرد ليبلغ عند تلك القمة التي يصبح فيها فكرا غنيا بالصور الحية التي تليق “بفيلسوف الحياة“. ويكفى أن نطلع على فقرة واحدة مما كتب، وأن نتذكر العبارة التي قالها في كتابة الأكبر (إرادة القوة) الذي لم يقدر له أن يتمه وجمع ونشر بعد موته” أن الفكر هو أقوى شئ نجده في كل مستويات الحياة”، والعبارة التي صرح بها في إحدى كتاباته المتأخرة: “أن التفكير المجرد لدى الكثيرين عناء وشقاء، أما عندي فهو الأيام المواتية عيد ونشوة” واخيرا هذه العبارة التي دونها في اوراقه التي عثر عليها بعد موته وكأنه كأن يتنبأ بالغيب ويرد على الأجيال التي شعر أنها لن تفهمه ولن تنصفه: “إرادة القوة”، كتاب هدفه التفكير، ولا شئ غير التفكير.
إرادة القوة إذا شأنه شأن غيره من كتبه قد وضع ليفكر فيه الناس أنه قول ميتافيزيقى يتحدث عن العالم ككل ويتجاوز كل ما يضمه من أحوال وأشياء. ويصدق الشيء نفسه عن أقواله الكبرى – التي تعرضت دائما لسؤ الفهم – عن الأنسأن الأعلى وإرادة القوة – أي إرادة الحياة والمزيد من الحياة – وعودة الشبيه الأبدية. فهي أفكار فلسفية وميتا فيزيقية قبل كل شئ، وصاحبها الذي طالما تفاخر بعدائه للميتافيزيقا والمنطق والجدل والعقل النظري أو السقراطي هو في رأى معظم الدارسين (وبخاصة هيدجر وتلاميذه) اشد الميتافيزقين تطرفا في تاريخ التفكير الغربي، بل أنه في رأيهم منتهى غايتها أخر حلقة من حلقات تطورها منذ أفلاطون ومن قبله من المفكرين قبل سقراط.

بيد أن كل هذا كله لا يتنافى مع الحقيقة التي وصف بها نفسه حين قال أنه “خبير بالنفس” لم يتوقف عن سبر أغوارها، وأنه كما قال في كتابه “أنسأني، أنسأني جداً” قد استفاد من”مزايا الملاحظة النفسية” وراح في كل كتاباته يحلل نفسه وينقدها وينطق بلسان”السيكولوجي” حين ينطق عن حاله. يقول على سبيل المثال في كتابه “نيتشه ضد فاجنر” :”كلما ازدادت خبرة المرء بالنفس واتجه كعالم نفس بالفطرة والضرورة إلى الحالات الاستثنائية والأنماط المختارة من البشر زاد الخطر الذي يتهدده بالاختناق شفقة عليها …” ولكن ما حاجتنا للجوء إلى مثل هذه العبارات وكتابات الفيلسوف تنطق بخبرته بالنفس وتعمقه في طبقاتها الدفينة ومتاهاتها المظلمة؟ أن المطلع على هذه الكتابات ابتداء من “ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى” حتى شذراته الأخيرة وخطاباته التي كتبها في ليل جنونه ووجهها إلى قيصر والمسيح وبعض أصدقائه – كل هذه الكتابات تشهد شهادة كافية على تحليلاته النافذة ونظراته النفسية الثاقبة، بل أنها لتشهد بأنه سبق مؤسس التحليل النفسي في هذا المضمار، وأنه راد طريق علم النفس التحليلي وعلم النفس الفردي – كما سنرى بعد قليل – واثر عليها جميعا بحدوثه وخواطره الملهمة تأثيرا مباشرا أو غير مباشر – وصل في بعض الأحيان إلي حد استباق النظريات – كاللاوعي وما تحت الوعي وما فوقه ووراءه وكذلك اللاوعي الجمعي النماذج أو الأنماط الأولية – بل لقد بلغ حد التطابق في المصطلحات كما سنرى مثلا مع كلمة الإعلاء التي تتكرر في كتبة اكثر من أثنى عشرة مرة.

الواقع أن نيتشه قد تجاوز علماء النفس “المدرسيين” في عصره وتخلص من لغتهم التصورية الجافة وسبقهم إلي كثير من المعارف والأنظار التي لم يدروا عنها شيئا. نظر في خفايا النفس الفردية وما تنكره خجلا أو تحجبه خوفا من نفسها ومجتمعها، كما نظر في العلاقات الوثيقة بين الحضارة والدين، وبين المجتمع والأخلاق، وتتبع التطورات الحضارية التي كونت ما نسميه الوعي إلى الأجداد وأجداد الأجداد واثبت أن هذا الوعي ليس ألا حصيلة الأخطاء عريقة، وأن الضرورة تقتضي الغوص إلى ما تحته في متاهة الدوافع المستمرة، كما تقتضي التطلع إلى ما بعده في “وعى جمعي” يحمله جيل من أصحاب الأرواح الحرة المريدة الخلافة، جيل راح ينتظره ويعد له ويبشر به بأعلى صوته. وهو لم يكتف في كل هذا بأن يكون خبيرا بالنفس يقتفى أثار منابعها الذاتية الحقة، ولم تقف تجاربه ومحاولاته عند البحث عن هذه المنابع الأصيلة (يقول في إحدى القطع التي كتبها عن زرا دشت : الانتظار والتأهب. انتظار أن تنبثق منابع جديدة. أن ينتظر المرء عطشه ويتركه حتى يصل إلي أقصى مداه لكي يكتشف منبعه) لم يقف الأمر عند هذا بل عرف أن “السيكولوجية “التي يقصدها “سوماتية” أن ممتدة الجذور في الجسد. ولهذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يجعل عنوان إحدى حكمة التي كتبها ضمن شذرات كتابة الأكبر الذى سبقت الإشارة إليه : “الاهتداء بالجسد” وأن يقول فيها : “على فرض أن (النفس) كانت فكرة جذابة غنية بالأسرار الغامضة ولم يستطع الفلاسفة – والحق معهم – أن ينفصلوا عنها ألا مرغمين ، فربما كأن ذلك الذي بدأ يتعلمون كيف يستبدلونه بها اكثر جاذبية واحفل بالغوامض والأسرار”.

ولا شك أن نيتشه – بعد شوبنهور وفويرباخ – قد اكتشف أن الجسد فكرة اكثر إثارة للدهشة من فكرة النفس “العتيقة”. وقد لا نعدو الصواب إذا قلنا باختصار يحتمه ضيق المقام أن هؤلاء الثلاثة قد عملوا على تحول الفكر الحديث من ميتافيزيقا العقل – الذي أنهار وخلع عن عرشه بعد موت هيجل – إلى ميتافيزيقا الجسد والإرادة والدوافع . ولعل نيتشه أن يكون أشدهم من هذه الناحية تأثيرا على تيارات عديدة من فلسفة الحياة إلى فلسفة الوجود إلي علم النفس الوجودي إلي الأنثربولوجيا الفلسفية إلي مدارس التحليل النفس المختلفة.

هل يعنى هذا أن نجعل من نيتشه “عالم النفس” كما أصر على وصف نفسه في بعض نصوصه؟ وهل يصح أن نشق على أنفسنا فنوازن موازنة دقيقة بين نصوصه التي تتجلى فيها “أنجازات السيكولوجية” وبين نصوص أخرى نستقيها من علماء النفس التحليلين (كما فعل فيلسوف الحياة لودفيج كلاجيس (1872-1956) في كتابة أنجازات نيتشه السيكولوجية مبينا سبقه لهؤلاء في العديد من مناهجهم ونظراتهم ومطلحاتهم) إن البحث العلمي لا يعرف حدا يقف عنده، ولا يتهيب بابا يطرقة ولا طريقا يقتحمه. وكل ما سبقت الإشارة إليه أمور مشروعة لا غبار عليها  ولكن المشكلة أن جوانب نيتشه متعددة – مثل في ذلك مثل كل مفكر حقيقي ضخم – فهو “سيكولوجي” أراد – على حد قوله – أن يجعل من علم النفس “طريقا إلي المشكلات الأساسية الكبرى”بحيث يصبح “سيد العلم” ويسخر سائر العلوم لخدمته والإعداد له. وهو بجانب ذلك “فسيولوجى” اراد أن يعرف “الفيزيس” فى الطبيعة وفى حياة الإنسان وجسده الخاص، و”فيلولوجى” ضاق بمناهج فقهاء اللغات القديمة فى عصره – وقد كأن استاذا لها – وبضيق أفقهم وقصور تفسيراتهم اللغوية المرهقة . ثم هو قبل كل شئ وبعد كل شئ مفكر ميتافيزيقى وفيلسوف حضارة عدمية غاربة وأخرى مقبلة في مستقبل يبشر به ويعلن عنه ويدعو إلى خلقه وإبداعه .

وتبقى في النهاية مشكلة نصوصه نفسها. أن هذا النصوص المجنحة المتوهجة بنار الغضب أو النشوة تحير كل من يحاول الاقتراب منها  فهل يمكن أن نقف منها. موقفا موضوعيا باردا يقتضيه التحليل العلمي، وهل نستطيع من ناحية أخرى أن نقى أنفسنا خطر الأنجذاب لدوامتها والأنجراف مع حماسها وجموحها؟ أن نيتشه يصف نفسه بأنه ليس بشرا وأنما هو ديناميت! وهو يؤكد باستمرار أنه قدر وأن قدرا لم تسمع عنه البشرية قد ارتبط به .. ومن يطلع على صفحة واحدة من كتاباته لا ينجو من زلزلة تصيبه أو حمم تتناثر من بركانه . ولن ينسى أحد وصفه لنفسه في هذه الآبيات التي جعل عنوانها “هو ذا الإنسان” من كتابه الذي يحمل نفس العنوان:

حقا!أنى اعرف أصلى!

نهم لا اشبع

أتوهج، آكل نفسي

كاللهب المحرق،

نورا يصبح ما امسكه

فحما ما اتركه

حقا!أني لهب محرق!

لا مفر أذن من أن نحاول الأمرين معا على صعوبة الجمع بينهما: أن نفهم هذا المفكر اللاهب الملتهب، وأن نتعاطف معه ونجرب أن نرى رؤاه، وبذلك نرضى مطلب الموضوعية الذي لا غنى عنه، ونستجيب لدفئ الوجدان الساحر الذي ينفح وجوهنا مع كل سطر من سطور. الأمر عسير كما قلت، وهو أشبه بإقامة العدل أو عقد الزواج بين الثلج والنار!أنه يتطلب اتخاذ مسافة البعد الكافية التي تحتمها النظرة العلمية المحايدة، كما يقتضي القرب المتعاطف الذي يحتمه التعامل مع مثل هذا الفيلسوف الشاعر بالمعنى الاعمق لا بالمعنى التقليدى لهاتين الكلمتين. ولعل هذا البعد السحيق من جهة وهذا التواصل الوثيق من جهة اخرى هما اللذان تفرضهما كل علاقة أصيلة يمكن أن تنشأ بين الأنا والأنت (على حد تاكيد مارتن بوبر فى كتبه العديدة عن هذه العلاقة الجوهرية الاصيلة التى اوشكت أن تغيب غيابا مطلقا عن حياتنا العربية والمصرية!).

بقى أن نتم المهمة التى اشرنا إليها فى بداية هذا التقديم، ألا وهى بيان التأثيرات المباشرة أو الغير مباشرة لكتابات نيتشه “النفسية” على أعلام التحليل النفسي او بالأحرى “علم نفس الأعماق” كما يوصف في لغته. وهى مهمة سنحاول أداءها بإيجاز شديد لا يسمح المقام بتفصيله

التحليل النفسي لفرويد

لنبدأ برائد التحليل النفسى ومؤسسه فرويد (1856-1939). ولنذكر اولا أنه كأن معاصرا لنيتشه الذى يكبره فى السن بإثنى عشر عاماً فحسب، وأنه اتخذ منه ومن فلسفته موقف التحفظ الذى لم يكد يتزحزح عنه. ولعل القارئ لم ينس تلك الفقرة المشهورة من نهاية المحاضرة الثامنة عشرة من محاضراته التمهيدية عن التحليل النفسى التى يشرح فيها كيف أوذي الإنسان الحديث ثلاث مرات فى غروره واعتزازه بنفسه ومكانته فى العالم . كانت المرة الأولى عندما تم التحول الأكبر فى عصر النهضة من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس على يد كوبرنيقوس (1473-1543) الذي افترض أن أرضنا ليست هى مركز الكون، وكأن من الضروري أن يستخلص الإنسان من ذلك أنه ليس تاج الخليقة وأن العالم لم يخلق من اجله . وكانت المرة الثانية عندما قدم تشارلز داورين (1809-1882) كتابه عن اصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي فاثرت نظريته في التصور الديني بوجه خاص عن كون الأنسأن صورة الله وخليفته علي الأرض. أما المرة الثالثة فكأن الأذى اشد قسوة واعمق جرحاً، إذ جاء من جانب ” البحث السيكولوجي الراهن الذي يريد أن يثبت للأنا أنها لا تملك حتى أن تكون سيدة في بيتها الخاص، أنما تظل معتمدة علي أنباء شحيحة عما يجري بصورة غير واعية في حياتها النفسية “. ومع أن فرويد يقرر في تواضع أن أصحاب التحليل النفسي ليسوا هم أول من نبه إلي ضرورة الرجوع إلي الذات ولا هم وحدهم اللذين فعلوا ذلك ، الا أنه يستطرد فيقول: يبدو أنه كتب علينا أن نعبر عن هذا اقوي تعبير وأن ندعمه بالمادة التجريبية التي تهم كل فرد، ولسنا هنا بصدد مناقشة الطابع التجريبي والعلمي للتحليل النفسي، فالجدل حول هذه المسألة يطول، ولكننا نسأل فحسب أن كأن من حق فرويد وتلاميذه وحدهم أن يستأثروا “بمجد” إيذاء الإنسان الحديث وتعرية عالمه الباطني المظلم، ام أن نيتشه قد سبقهم إلى الأخذ من هذا المجد بنصب!

مهما يكن الأمر فأننا نجد فرويد يشيد في سيرته (أو صورته الذاتية) – التي نشرت سنة 1925 – بالفيلسوف شوبنهور ويتحدث عن توجه التطابق القوي بين التحليل النفسي وفلسفته. وهو يشهد بأن هذا الأخير لم يصرح فحسب بأولوية “الانفعالية” والأهمية القصوى” للجنسية”، وأنما توصل كذلك إلى نظرات نافذة في “إليه الكبت” (راجع سيرة فرويد الذاتية، فرانكفورت غلي نهر الماين، سلسلة كتب فيشر،ويستدرك فرويد –الذي كأن فيما يبدو شديد الحرص علي عدم المساس بأصالته واكتشافه للاوعي – فيقول أنه لا يمكن الحديث عن أي تاثير لشوبنهور عليه وعلي بناء نظريته لأنه لم يطلع علي كتابات الفيلسوف الا في وقت متأخر جدا ولم يكن ينتظر من رجل مثل فرويد الذي عرف بثقافته واطلاعه الأدبي الواسع – أن يتجاهل معاصره نيتشه، فنجده يسجل في الموضع السابق من سيرته هذه الملاحظة الدالة “اما نيتشه، الذي كثيرا ما تتطابق مشاعره ونظراته بصورة مذهلة مع النتائج المضنية لتحليل النفسي، فقد تجنبته طويلا ولم يكن يرجع إلى السبق (أو الأولوية) بقدر ما كأن يرجع إلى حرصي علي المحافظة علي حريتي “ولا يخفي علي القارئ أن هذه العبارة تنطوي علي ما عكس ما أراد عالم النفس الشهير اذ يبدو أنه- في هذه النقطة علي الأقل – لم يعرف نفسه كما كأن يتوقع منه ، ولم يستطيع اخفاء اهتمامه ينفي أي تأثير عليه من نيتشه ، فكأني به قد وقع زلة من زلات اللسان او القلم التي تثبت ما حاول أن ينكره ويخفيه!

ولا يتسع المجال لتناول علاقة فرويد بنتشه بصورة مفصلة، ويكفي أن نشير – تاكيداً لهذه العلاقة التي حاول مؤسس التحليل النفسي أن ينفيها أو يقلل من شأنها – إلى أن مؤرخ حياة فرويد – وهو العالم الإنجليزي أرنست جونز ـ يذكر في كتابه عن حياة أستاذه خطابا مؤرخاً في سنة 1900 يقرر فيه أنه “مشغول بقراءة نيتشه”، ولابد أنه لم يفته أن يطلع عليه من قبل وأن لم يبدأ العكوف عليه إلا في السنة المذكورة.

ونضيف واقعة أخرى لا تخلو من دلالة على العلاقة غير المباشرة بينهما. فقد حضرت صديقة نيتشه لو سالومي (وهي التي حاول عبثا أن يخطب ودها!) مؤتمر التحليل النفسي الثالث الذي أنعقد في شهر سبتمبر سنة 1911 في مدينة فيمار. والمعروف أنها أنضمت بعد ذلك إلى مدرسة فرويد الذي اعتبرها من تلاميذه ، كما حاولت في مذكرتها التي كتبتها بعنوان “من مدرسة فرويد” أن نربط نظريات التحليل النفسي وتعبيرات نيتشه وصيغه النفسية المختلفة ، وأخيرا نشير باختصار إلى الرسائل المتبادلة بين فرويد والكاتب الروائي الاشتراكي أرنولد تسفانج في فترة امتدت من سنة 1927 حتى سنة. فقد أخبره تسفايج أنه يزمع وضع كتاب أو رواية طويلة عن نيتشه، ثم أرسل إليه في الثاني من ديسمبر سنة 1930 من مدينة فينا خطابا يقول فيه أنه ـ أي فرويد ـ قد حقق كعالم نفس تلك الرسالة التي شعر نيتشه بوجد أنه الملهم أنه مكلف بأدائها، وأن كان قد عجز عن تحويل رؤاه الشعرية إلى حقائق علمية. وأخذ الكاتب الروائي يعدد “إنجازات” فرويد التي سبقه الفيلسوف إلى الإحساس بها وصياغتها: “لقد حاول نيتشه أن يصور “ميلاد التراجيديا”، وأنت قد فعلت هذا في كتابك عن “الطوطم والمحرم” (التابو) وعبر عن شوقه إلي عالم يقع وراء الخير والشر، وقد استطاعت عن طريق التحليل النفسي أن تكتشف مملكة تنطبق عليها عبارته، وأن تقلب قيمة كل القيم، وتتجاوز المسيحية، وتصوغ “خصم المسيح “الحقيقي، وتحرر مارد الحياة المتصاعدة من الزهد الذي كانت تعتبره المثل الأعلى، ولقد استطاعت كذلك أن ترد “إرادة القوة” إلي الأساس الذي تقومم عليه، وأن تتناول بعض المشكلات الجزئية التي اهتم بها نيتشه عن الأصل اللغوي للمفاهيم الأخلاقية فتتطرق منها إلي مشكلات اعظم واهم من الكلام والافصاح والربط بين الأفكار وتبليغها ونتوصل إلي حلها.

أما الروح المنطقية او السقراطية التي رفضها فقد قصرتها علي مجالات الوعي ووضعتها في حدودها بصورة ادق. “ولما كنت باحثاً طبيعياً وعالماً نفسيا يتقدم خطوة خطوة فقد أتممت ما تمني نيتشه أن يتمه، الا وهو الوصف العلمي للنفس البشرية وجعلها مفهومة، ثم زدت علي ذلك فبينت – بحكم كونك طبيباً – سبل تنظيمها وعلاج امراضها. أنني اعتقد كذلك أن هناك قدراً كبيراً من الملاحظات الفردية – التي تتصل بفرو يد “الكاتب” وتمد جسوراً بينه وبين نيتشه، كما أعتقد أن بسالة” المتفلسف بالمطرقة” قد فاقتها بسالة الباحث بأسلوب موضوعي خالص عن الدوافع الأورفية والديونزية . واكتشاف تأثيرها وفعلها في كل واحد منا.

ماذا كان رد فعل مؤسس التحليل النفسي علي كل هذا التمجيد والاشادة بدوره؟

العجيب حقاً أنها لم تحوله عن تحفظه تجاه الفيلسوف، بل لعلها قد زادته إصراراً عليه! فهو ينصح الكاتب الروائي بالعدول عن فكرة تأليف الكتاب، بل يضيف في خطاباته التإلية أننا لا نعرف الا اقل القليل عن تكوين نيتشه الجنسي، وهذا القليل لا يساعدنا علي تطبيق ادوات التحليل النفسي لالقاء الضوء علي حياته وقدره. ويبدو أن الكاتب لم يقتنع بالحجج التي تذرع بها فرويد، فارسل إليه هذا الاخير – في خطاب مؤرخ في السابع من ديسمبر من السنة نفسها 1930 – هذه العبارة الدالة: “اكتب عن العلاقة بين تأثير نيتشه وتأثيري بعد أن أموت” (ارجع الرسائل المتبادلة بين فرويد وأرنولد تسفانج، نشرتها ارنست فرويد، فرانكفوت علي الماين، 1969، ص 25 وما بعدها).

لعل هذا الموقف المتحفظ أن يرجع – كما تقدم – إلى خشية فرويد أن يستقر في الأذهان سبق نيتشه وأن يضر ذلك بريادته وأصالته، والرد على هذا بسيط: فليس نيتشه هو الوحيد الذي أثر على تفكير فرويد، سواء اعترف به أم أنكره (فثمة تأثيرات مؤكدة من أسماء أخرى مثل ليبنتز وجوته وشوبنهور وكاروس – الفيلسوف الطبيعي الرومانتيكى المعروف بكتابه عن النفس وبحديثه عن اللاوعي) كما أن عشرات المؤثرات لا تصنع عبقرية، والاطلاع على عشرات الحكم والأفكار الملهمة لا يغنى عن ضرورة تشكيلها ولا ينال من أصالة اكتشاف المنهج وسبل الفحص والعلاج. هل نقول إذا مع باحث مثل هنرى ف. إلينبرجر (في كتابه اكتشاف اللاشعور، الجزء الأول عن نيتشه نبي عهد جديد، من الترجمة الألمانية، 1973) أن تأثير نيتشه يتغلغل في مدرسة التحليل النفسي بأكملها؟ أن الحكم الموضوعي النزيه يقتضي المقارنة بين النصوص مقارنة دقيقة. وهو جهد مشروع كما قلت، وسنخرج منه في النهاية بما لا يمس رائد التحليل النفسي في أصالته، ولا يحول فيلسوف إرادة الحياة والقوة إلى عالم نفس! وفي تقديرى أن هذه المقارنة الدقيقة – التي نفتقدها حتى الآن – ستنتهي إلى النتيجة التى أشرت إليها، ولكنها ستؤكد فضلا عن ذلك أوجه تشابه عديدة بين فكر المفكر وعلم العالم بغض النظر عما أثير حول علمه من ظنون وعما بذل من محاولات لتدعيم أفكاره بالتجارب و”التقنيات” أو الأساليب العلمية والطبية الدقيقة. سوف نلاحظ مثلاً أن الفيلسوف وعالم النفس يشتركان في الاعتقاد بأن كل تفكير الإنسان وفعله وكل أشكال التعبير عن الحياة البشرية عند الفرد والجماعة أنما هى مظاهر أو ظواهر معبرة عن “عمق” باطن، وأن “اللاوعي” هو الذى يقوم في ذلك بالدور الأول والأكبر لا “الوعى”، إذ تكون السيطرة لقوى الدافع التى تأتى من مناطق لا واعية في النفس، وهى قوى أو طاقات تعد أقدم من الوظيفة العقلية، كما تكتشف عن الجانب الأكبر من شخصية الإنسان الذى يحاول بطبيعته أن يتستر خلف أقنعة من كل نوع – ويتم هذا الكشف حتى في أحلامه (حسب نظرية فرويد عن الأحلام). ولهذا يؤكد نيتشه في مواضع كثيرة من نصوصه أننا نستطيع أن نستخلص من التعبيرات الانفعالية لأي إنسان ما يفوق في حقيقته ودلالته كل ما يمكن ان نستخلصه من العقل الذى يعمد دائما إلى الوزن والقياس والحساب والتخطيط.

ولقد اعترف فرويد – كما سبق القول – بأن كتابات نيتشه تنطوى على نظرات حدسية نجدها في كثير من الأحيان متطابقة مع النتائج التجريبية للتحليل النفسي، والواقع أن هذه الكتابات تتناثر فيها مفاهيم وأفكار لا شك في أهميتها وقيمتها التحليلية والنفسية، ناهيك عن مصطلحات يمكن أن توصف بأنها بذور نمت منها بعض المصطلحات التى استقرت في التحليل النفسى (مثل مصطلح “الهو” الذى يقابلنا أكثر من مرة في الكتاب الأول من هكذا تكلم زرادشت وتبقى النظرات الحدسية – كما وصفها فرويد بحق – هى الأجدر بالاهتمام، إذ لا نستبعد أن تكون قد أثرت على رائد التحليل النفسي مهما أنكر ذلك التأثير أو تنكر له . ولنذكر بعض هذه النظريات باختصار: التصور الدينامى للنفس مع تصورات أخرى مرتبطة به كالطاقة النفسية، ومقادير الطاقة الكامنة أو المعوقة، وتحويل الطاقة من دافع إلى آخر، تصور أن النفس نظام أو نسق من الدوافع التى يمكن أن تتصادم وتتصارع أو تندمج وتذوب في بعضها، تقدير أهمية الدافع الجنسي وأن لم يجعله الدافع الأول والأهم كما فعل فرويد قبل أن يتكلم عن غريزة الموت في كتاباته المتأخرة، إذ أنه يأتى عنده بعد دوافع العدوان والعدم، فهم العمليات التى سماها فرويد “إليات دفاعية” وبخاصة عملية الإعلاء والتعويض، والتعجيل أو التعويق – والذى يسميه فرويد الكبت – واتجاه الدوافع وجهة مضادة للذات نفسها. كذلك نجد بعض الأفكار المهمة متضمنة في نصوص الفيلسوف مثل صورة الأب والأم، وأوصافه للإحساس بالحقد والضمير الكاذب والأخلاق الفاسدة التى سبقت أوصاف فرويد للإحساسات العصابية بالذنب كما سبقت وصفه للأنا الأعلى، أضف إلى هذا كله أن كتاب فرويد المشهور “الضيق بالحضارة” يكاد أن يوازى كتاب نيتشه عن”تسلسل الأخلاق” موازاة دقيقة في نقد العصر والحضارة، ولعل كليهما قد تأثر بما قاله الفيلسوف والكاتب الفرنسى ديدرو (1713 – 1784) من أن الإنسان الحديث مصاب بمرض عجيب مرتبط بالمدنية، لأن المدنية تتطلب منه أن يتخلى عن إشباع دوافعه. وغنى عن الذكر أن الاثنين قد عاشا متعاصرين، وأنهما قد مرضا بزمانهما وحضارتهما وحاولا أن يعرياهما من أقنعتهما الزائفة. والفرق الأساسى بينهما أن عالم النفس قد اهتم بالتطور الذى يبدا من الماضي بينما تطلع الفيلسوف بكل غضبه وحماسه إلى المستقبل.

ويأتى دور الفرد آدلر (1870 – 1937) مؤسس علم النفس الفردي الذي يدور حول قضية أو فكرة تبدو شديدة القرب من تفكير نيتشه. فالمعروف أن آدلر قد اعتبر الشعور بالنقص أو الضآلة من أهم حقائق الحياة النفسية، كما استخلص منه نتائج مهمة تتعلق بتحديد شخصية الفرد وبطابع الحياة الاجتماعية، وهو يذهب إلى حد القول بأن الإنسان هو الكائن الذى يسعى سعيا دائبا لإكمال شخصيته، وذلك بفضل إحساسه بنقصه وضآلة قيمته، فإذا عاق هذا السعى إلى الكمال عائق وحيل بينه وبين الطموح إلى القوة وإثبات الذات ظهرت عليه أعراض المرض العصابى.

ولا شك أن العبارات السابقة تغرينا بالتقريب بين فلسفة نيشته وبين مذهب آدلر الذى يحركه الطموح إلى القوة أو “إرادة القوة”. وقد نسرع إلى الظن بأن هذا المذهب يردد تنويعات مختلفة على لحن أساسى من إلحان نيتشه، وربما يؤيدنا في هذا الظن أن آدلر نفسه – في كتابه عن الشخصية العصبية – يوافق على أن “إرادة القوة” تصلح للتعبير عن مسعاه وأن هذه الفكرة الموجهة – كما يقول في التمهيد للجزء النظرى في ا لكتاب المشار إليه – “يندرج تحتها اللبيدو والدافع الجنسى والميل للأنحراف أيا كأن مصدرها جميعا، أن إرادة القوة و”إرادة المظهر” عند نيتشه تنطوى على جوانب كثيرة من رأينا الذى يقترب بدوره في بعض النقاط من آراء فيريس وغيره من المؤلفين القدامى. ولا يكتفى آدلر بهذه العبارات التى تشهد باطلاعه الواسع على فلسفة نيتشه واعترافه بتأثيرها عليه، بل يضيف قوله في كتاب آخر نشره بالاشتراك مع زميله كارل فورتميلر تحت عنوان “العلاج والتربية”، وإذا ذكرت اسم نيتشه فقد كشفت عن أحد الأعمدة الشامخة التى يقوم عليها فننا، أن كل فنان يطلعنا على خبايا نفسه، وكل فيلسوف يعرفنا بطريقته في توجيه حياته وجهة عقلية، وكل معلم ومرب يشعرنا بانعكاس العلم على وجدانه، كل هؤلاء يهدون بصرنا وإرادتنا في أرض النفس الواسعة”.

ربما أوحى إلينا هذا كله بأن مذهب آدلر صورة نفسية من فلسفة نيتشه. غير أن الحقيقة أبعد ما تكون عن هذا الظن، بل ربما جاز القول بأن علم النفس الفردي يسير في اتجاه مضاد لأفكار فيلسوف القوة. ولا يرجع هذا إلى أن آدلر قد تأثر به كما تأثر بغيره، فالتأثيرات مهما اشتدت وتنوعت لا تصنع، كما قدمنا – شخصية ولا فكراً متميزاً، وأنما يرجع إلى الفروق الموضوعية الدقيقة بينهما، فإرادة القوة التي تصورها نيتشه تختلف عن الطموح إلى القوة الذى يفسح له آدلر مكاناً مهما في نظريته عن العصاب، وبينما يعبر الأول بفكرته عن إنسانية أعلى ويجعل منها وسيلة تخطى الإنسانية الحاضرة وغايتها، نجد آدلر يعتبر الفكرة نفسها وموقف نيتشه بأكمله تعبيرا عن اليأس والقلق ونزعة التعويض التي تدفع بصاحبها إلى السيطرة على الآخرين وإثبات القوة والغلبة عليهم (ولا ننسى بهذه المناسبة أن فيلسوف القوة كان فاسد المعدة مضطرب الأعصاب مصابا بالأرق المزمن وشقيا يتجاهل العصر وجحوده بحيث يمكننا أن نقول مع بعض الباحثين أن علم النفس الفردى هو أبلغ اتهام لإرادة القوة وأقسى تعرية لخداع صاحبها لنفسه وتدميره لها، وكما وضع فرويد التصميم الواعى والتدبر والحكم العقلى الواضح في مقابل الدوافع اللاوعية، كذلك أقام آدلر من الشعور بالجماعة سدا يحمى الحياة النفسية عن عواصف الطموح إلى القوة والسيطرة الإنسانية، صحيح أن آدلر قد سلم بوجود ثنائية نفسية تذكرنا بما قاله فرويد عن مبدأ اللذة ومبدأ الواقع، أو دوافع الحب والحياة ودوافع التدمير والموت، ولكن الواقع أن علم النفس الفردي يحاول تحقيق التوازن بين النزوع الفردي إلى القوة وبين الشعور بالجماعة أو المجتمع. فإذا كانت إرادة القوة تمثل الدافع الأصلى وتعبر عن غريزة الحياة الأساسية والمحور الذى يدور حوله الوجود، فأن الشعور بالجماعة هو الأصل والأساس في حياة الإنسان، وما النزوع إلى القوة إلا حركة نفسية نابعة من عقدة الشعور بالنقص (أو ضآلة القيمة) مفسدة للإنسان مدمرة لكيانه.

وليس الإنسان في نظر علم النفس الفردى مجرد حالة فردية أو استثنائية تطمح إلى القوة والسيطرة ولا تعرف شيئا عن الحب كما زعم فرويد عن تلميذه المنشق! وأنما يقاس الفرد دائما بمقياس الإنسان المثالي الذى يتبع قواعد اللعبة التى يسنها المجتمع ويسير- على هدى التربية وعلم النفس – إلى تحقيق الحياة الإنسانية المشتركة مع إخوته في الجماعة الإنسانية.

ونصل أخيرا إلى العلم الثالث من أعلام “علم نفس الأعماق” وهو كارل جوستاف يونج (1875 – 1961) لنعرف إلى أى حد تأثر “بالخبير بالنفوس”. والحق أن يونج يسلم بهذا التأثير بجوأنبه الإيجابية والسلبية. ونستشهد على هذا برسالة كتبها قبل موته بشهور قليلة إلى أحد رجال الدين الأمريكيين وقال فيها: “أن تقديم تقرير مفصل عن تاثير أفكار نيتشه على تطورى العقلى لمهمة طموح تتخطى حدود قدرتى. فقد أمضيت شبابى في المدينة التى كأن نيتشه قد عاش فيها فترة من حياته وعمل في تدريس اللغات القديمة في جامعتها، وبذلك شببت في جو لا يزال يرتجف تحت سطوة مذهبه، على الرغم من أن هجماته كانت تلقى مقاومة شديدة. لم أستطع أن أتجنب الأثر الذى أحدثه إلهامه الأصلي على نفسى وشدنى إليه بقوة. فقد كأن يتميز بالإخلاص والصدق الذى لا يمكن أن يدعيه عدد غير قليل من الأساتذة الأكاديميين الذين يهتمون بمظاهر الحياة الجامعية أكثر مما يهتمون بالحقيقة. والأمر الذى أثر في أعظم تأثير هو لقاؤه بزرادشت ونقده “للدين”، هذا النقد الذى أفسح في الفلسفة مكانا للعاطفة المتوقدة من حيث هى دافع أصيل على التفلسف. شعرت أن “التأملات لغير أو أنها” قد فتحت عيني، أما “تسلسل الأخلاق” و”العود الأبدى” فكأن حظهما من اهتمامي أقل، واستطاعت أحكامه السيكولوجية النفاذة أن تبصرنى تبصرة عميقة بما يمكن أن يحققه علم النفس.

وعلى الجملة، كأن نيتشه بالنسبة إلى هو الإنسان الوحيد الذي قدم لى في ذلك العصر إجابات كافية، عن بعض الأسئلة والمشكلات الملحة التى كنت أشعر بها أكثر مما أفكر فيها.

هذا الاعتراف الصريح من مؤسس علم النفس التحليلى لا يحتاج إلى تعليق. ويمكن أن نضيف إليه اعترافاً آخر يسجله بكل العرفان عن سنوات الطلب والتحصيل في شبابه، فقد أقبل على قراءة نيتشه في نهم وحماس، ثم قرأ “هكذا تكلم زرادشت” فكانت قراءته لهذا الكتاب بجانب فاوست لجوته – أقوى تجربة مر بها في شبابه، ولعل أول أثر لهذه القراءة قد ظهر في رسالته الجامعية عن “سيكولوجية الظواهر المسماة بالظواهر الخفية وتشخيص أمراضها” (1902) فقد درس فيها حالة من حالات “الكريبتومنيزيا” التذكر الخفي واللاشعوري) والتى صادفها عند نيتشه.

ولم تمض سنوات قليلة حتى رجع إلى نفس الموضوع، وحاول أن يتحسس طريقه إلى “شيطان اللاوعي” الذى وقع الفيلسوف تحت تأثيره السحرى. عند تدوينه لكتابه عن زرادشت: “أن هذه الاهتزازات الراجفة العميقة للمشاعر، وهى التى تتخطى مجال الوعى وتتجاوزه، هى القوى التى أظهرت للنور أقصى التداعيات تطرفا وخفاء، هنا اقتصر الوعى على القيام بدور العبد الخادم لشيطان اللاوعى الذى طغى على الوعى وراح يغمره بالخواطر الغربية، وما من أحد استطاع أن يصف حالة الوعى بمركب لا واع مثل نيتشه نفسه (الكلريبتومنيزيا، في المجلد الأول من مؤلفات يونج الكاملة ص 113 وما بعدها) – ويحاول الطبيب النفسى الشاب أن يتابع هذا الموضوع الشائك عن “الأرواح” والأرباب عند الإغريق وبخاصة عن شخصية ديونيزيوس مع الإشارة الصريحة إلى تأثيرها على نيتشه ابتداء من كتابه “ميلاد التراجيديا” فيقول في رسالة وجهها سنة 1909 إلى فرويد “يبدو أن نيتشه قد أحس بهذا إحساسا قويا، ويخيل إلى أن الديونيزى” كأن يمثل موجة ارتداد جنسية لم تقدر قيمتها التاريخية حق قدرها، وقد تدفقت بعض عناصرها الجوهرية إلى المسيحية، وأن طبقت تطبيقا آخر يتسم بالاعتدال والتصالح.

ولا يقف الأمر عند هذه النصوص وأشبابهها لبيان تاثير نيتشه على يونج، فالواقع أن خيوط هذا التأثير بشخصية نيتشه و”نمط” حياته وتفكيره بل وأحلامه ورؤاه تتخلل كتاباته من بداية حياته إلى نهايتها. ولا شك أنه كان صادقاً كل الصدق عندما قال في كتابه المشهور عن” سيكولوجية اللاوعي” 1912 (وطبع طبعات منقحة بعد ذلك) أنه قد بدأ حياته طبيبا نفسياً وعقلياً، ولكن نيتشه هو الذى أعده إعداداً لعلم النفس الحديث (سيكولوجية اللاوعي، المجلد السابع من المؤلفات الكاملة،) ولولا ضيق المقام لتعرضنا للتجارب “الدينية” التي مر بها الفيلسوف وعالم النفس في صباهما وشبابهما، إذ أنحدر كلاهما من صلب قسيس، ووجد نفسه محاطا بعلماء اللاهوت الذين عجزوا عن الإجابة عن الأسئلة التي أرقتهما.

ولكن الأهم من ذلك ألا ننساق وراء التأثير والتأثر – الذى يظل في تقديرى أمراً غامضاً على كل المستويات – وأن علم أن مؤسس علم النفس التحليلى لم يكن مجرد معجب متحمس لفيلسوف الإرادة والحياة وأنما أتيح له أن يتطور وينضج ويجد ذاته وينظر إليه بعين ناقدة. ونكتفى في هذا الصدد بمثلين نقدمهما من مؤلفاته، فهو في كتابه عن “الأنماط النفسية” لا يكتفى بسرد نصوص يقتبسها من نيتشه، وأنما يتناول شخصيته كمثل على نوع من الوعى الذى يحاول بكل جهده ا لسيطرة على الدوافع المظلمة. أنه يذكر بالتقابل الأساسى الذى يعبر عن التضاد الحاسم بين طرفين هما ديونيزيوس وأبوللو – كما عرضه نيتشه في كتابه المبكر عن ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى – ثم يتطرق إلى نقد دينامية الدوافع الكامنة وراء هذا التضاد، ويسوق أمثلة اخرى من التاريخ الحضارى والأدبي نذكر منها رسائل الشاعر الفيلسوف شيلر (1759 – 1805) عن التربية الجمالية ليعزز بها نقده.

لقد أهمل المفكران الشاعران في رأيه البعد الدينى واقتصرا على الاهتمام بالبعد الجمالى والفنى لشخصيتى أبوللو وديونيزيوس، وهو لا يكفى لتفسير مضمون التجربة الدينية والتاريخية التى تغلغلت في “اللاوعى الجمعى” لقدماء الإغريق فضلا عن أن نيتشه قد تجاهل الجانب الصوفى والتأملى الذى اتسمت به طقوس ديونيزيوس في أماكن مختلفة من بلاد الإغريق: “لقد اقترب نيتشه من الواقع إلى الحد الذى جعل تجربته الديونيزية المتأخرة أشبه بنتيجة ضرورية لا مفر منها، أما هجومه على سقراط في ميلاد التراجيديا فهو هجوم على العقلاني العاجز عن الإحساس بالنشوة والتوهج الديونيزى (الأنماط السيكولوجية)، المجلد السادس من المؤلفات الكاملة وقد كأن من الطبيعى أن يحاول يونج فحص الخصائص النفسية لهذين النمطين الأسطوريين وأن يحاول أن يبين العلاقة بينهما وبين نظريته عن الوظائف النفسية والمواقف أو الأنماط الأساسية التى تؤدى في مذهبه دورا كبيرا (والمعروف أنه يحدد أربعة أنماط من الوظائف هى التفكير والشعور والإحساس والحدس، كما يحدد نمطين أو موقفين أساسيين هما الانطواء والانبساط). وهكذا يجد أن ما يصفه نيتشه “بالديونيزى” يقترب في تصوره من الشعور المنبسط المتجه إلى الموضوعات الخارجية، إذ تظهر في هذه الحالة تأثيرات أو أنفعالات دافعية قاهرة وعمياء تعبر عن نفسها في صور جسدية عنيفة، أما ما سماه نيتشه “بالأبوللونى” فهو – كما أوضح بنفسه – تعبير عن إدراك الصور الباطنة للجمال والحب والمشاعر المعتدلة المنظمة. وتبرز طبيعة الحالة الأبوللونية إذا قارنا بينها وبين الحلم. فهى حالة استبطأن وتأمل متجه إلى الباطن مستغرق في عالم الحلم الغنى بالأفكار والمثل الأبدية، أى أنه في النهاية تعبير عن حالة الأنطواء ثم يتطرق عالم النفس إلى تحليل شخصية نيتشه نفسه فيقول أنها تجمع بين الوظيفة النفسية للحدس من ناحية وبين وظيفة الإحساس والدافع من ناحية أخرى، أنه يمثل النمط الحدسى أو الوجدأنى الذى يميل للانطواء، يشهد ذلك طريقته الحدسية والفنية في الأنتاج كما يدل عليه أسلوبه في الكتابة بوجه عام وفي ميلاد التراجيديا. وزرادشت بوجه خاص. ومع ذلك فأن هذه النزعة الانطوائية تخالطها – كما نرى من كتبه العديدة التى وضعها في صورة حكم منثورة – نزعة عقلية ونقدية حادة متأثرة باعتراف صاحبها نفسه بإعجابه بحكم الكتاب الأخلاقيين الفرنسيين في القرن الثامن عشر، وتبقى الغلبة في نهاية المطاف للنمط الحدسي المنطوى الذى يفتقر عموما إلى التحدد والتنسيق العقلي والمنهجي. ويميل إلى إدراك “الخارج” عن منظور “الباطن” ولو على حساب الواقع. ويظل الفيلسوف طوال حياته واقعا تحت تأثير السمات الديونيزية للاوعى الباطن، إذ لم تبلغ هذه السمات سطح الوعى إلا بعد أن تفجر مرضه الأخير واستسلم لغيبوبته العقلية الطويلة التى انتهت بموته، ولم تظهر قبل ذلك إلا في مواضع قليلة متفرقة من كتاباته في صورة رموز وإشارات شبقية.

أما المثل الثاني الذي يدل على مدى اهتمام يونج بشخصية نيتشه فيمكن أن نسوقه من النصوص المختلفة التي تعرض فيها العالم السويسري “للقدر” الألماني والمحنة التى جرها الألمان على ملايين البشر في حربين عالميتين، فنحن نجد في كتابه السابق الذكر عن الأنماط النفسية إشارات يفهم منها أن “زرا دشت” نيتشه قد ألقى الضوء على مضمونات من اللاوعى الجمعى مرتبطة بظهور “الإنسان القبيح” وبالمأساة اللاشعورية الفاجعة التى يعبر عنها هذا “النبى – الضد” أو المتنبئ المعذب (وقد كأن العصر يفيض في ذلك الحين بجرائم الفوضويين والعدميين ومقتل الأمراء والنبلاء والحكام وتطرف إليساريين .. الخ) أما عن اللمحات والرموز التى فاضت عن اللاوعى الأوربى للتعبير عن الخطر القادم على يدى الوحش الفاشى فنلاحظ أن يونج يتحدث عن “البربرى الجرماني” في دراسة صغيرة له عن “اللاوعى” ترجع إلى سنة 1918. والغريب في حديثه أنه يعهد إلى المسيحية بمهمة ترويض الجانب “الواضح والأعلى” من وعى هذه الجماعة الخطرة، ويترك مهمة التحكم في جانبها “السفلى” للعناية الإلهية! والأغرب من هذا أنه لا يذكر الخطر الجرماني وحده، وأنما يؤكد أن “الجنس الآرى الأوربى” يتعرض لنفس الخطر النابع من عمق اللاوعى الجمعى، ثم يشير إلى نيتشه إشارة غير خافية حين يقول أن “الوحش الأشقر يمكنه في سجنه السفلى أن يستدير إلينا فيهددنا أنفجاره بأفظع النتائج عن هذه الظاهرة تتم كثورة نفسية في داخل الفرد، كما يمكن أن تظهر في صورة ظاهرة اجتماعية .

لقد صدق تاريخ العالم حدس يونج واستيقظ الوحش الأشقر وفجر حمم الكارثة، فهل نقول إليوم أنه ظلم نيتشه فصوره (كما فعل توماس مان بعد ذلك في روايته الرائعة عن الدكتور فاوستوس التى تحمل ملامح من نيتشه ومن المؤلف الموسيقى الغريب الأطوار أرنولدج شينبرج ..) في صورة النمط المعبر عن الوحش الأشقر، أم أنه أنصفه حين أكد أنه عبر عن ذلك “البربرى” الكامن في طبقات اللاوعى السفلى من كل جرمأنى وفي أعماق نيتشه نفسه وتجربته؟ مهما يكن الأمر فأن يونج قد اهتم من الناحية العلمية البحتة بإبراز قوى الدوافع “النمطية الأولية” التى وصفها نيتشه نفسه وأعلن عن عواصفها وصواعقها المقبلة وحذر من أخطارها، وكأنهما كأن هذا الشاعر الفيلسوف “الخبير بالنفوس” هو ساحر العصر الذى يستحضر أرواح الشياطين المدمرة، ويتنبأ بالكارثة المحتومة، ويعرى الأقنعة الحضارية والأخلاقية والفكرية الزائفة لتسقط وسط الحطام الهائل المتراكم على صدر أوربا العجوز: “ويل لهذه المدينة العظيمة – وأنا الذى تمنيت أن أشاهد أعمدة النار التى تحترق فيها! لأن هذه الأعمدة النارية يجب أن تسبق الظهر العظيم. ومع ذلك فلهذا أوأنه وقدره الخاص.(!

أن هذا النص الذى نجده في زرادشت كما نجد أشباهه في كتب نيتشه الأخرى يدل دلالة واضحة على أنه كأن فيلسوف الكارثة. ومع ذلك فأن أمثال هذه النصوص المزدحمة بصور الخراب ورموزه لا يصح أن تغرينا بتفسيرها تفسيراً تاريخياً ضيقاً، ولا يجوز أن تنسينا لحظة واحدة أنها تعبر تعبيراً رمزياً عن “الزلزلة القادمة” التى ستتبعها إشراقة “الفجر الجديد” (ولا ننسى أيضا أن الرموز الأصيلة ذات أبعاد عميقة متعددة).
ونسأل أخيراً: ما هى هذه الزلزلة؟ وما هو هذا الفجر الجديد؟ ليس من السهل أن نحدد ما يقصده نيتشه بهاتين الكلمتين أو بغيرهما من كلماته ومصطلحاته الفنية المليئة بالإيحاءات والإشعاعات. ولكن ليس من الصعب كذلك أن نرى – على ضوء ما سبق وما سيأتي بعد أن نيتشه يمثل “صدعا في تاريخ البشرية” (والتعبير لفيلسوف الحياة لودفيج كلاجيس الذى تقدمت الإشارة إليه). ولقد أكد تأكيداً لا مزيد عليه أنه “آخر العدميين”، وأن رسالته هى الكشف عن تصدع عصره “البرجوازى” وأنهياره على رؤوس رجاله الجوف، وتعرية وعيه الكاذب بأسره، وتغيير ألواح قيمه التى فقدت قيمتها بعد أن تداعى عامود النظام الميتافيزيقى الذى كأن يستند عليه، ولكن من الذى سيطلع هذا الفجر الجديد؟ من الذى سيحول القيم من اللوجوس (المنطق والجدل العقلى) إلى البيوس (الحياة وإرادة المزيد من الحياة)؟ وأخيراً من الذى سيبدع هذا العالم الجديد؟ أنه جيل المبدعين من أفراد الإنسان الأعلى. وليس الإنسان الأعلى على الإنسان المبدع. ومن أجل هذا الإنسان الذى اشتدت حاجتنا إليه كتب هذا البحث، تحية للمبدعين الحقيقيين ولكل من يساعدهم على فهم أسرار الإبداع.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى