مقالات متنوعة

قدسية الماء وأهميته في المعتقدات و الديانات القديمة

في اسطورة الخلق البابلية إنوما إيليش يقول النص في البداية لم يكن هناك سوى أبسو وتيامات ومعهم ممو بخار الماء أو الضباب وأبسو وتيامات هما الشكل الذكوري والانثوي لمياه الفوضى التي نظمها الإلهان  إيا الذي قتل أبسو وولده مردوخ الذي  قضى على الفوضى المتمثلة بتيامات وشطرها نصفان ليصنع من شطريها الأرض والسماء .

وفي الأسطورة السورية الأوغاريتية كان الإله يم اله البحر والمياه الفوضوية وبعد إنتصار الإله بعل على الفوضى المتمثلة بالإله يم شرع بعل بتنظيم العالم

وفي معظم اساطير الخلق المصرية تظهر المياه الأولى أو مياه الأزل بالأسم نون التي تخرج منها اليابسة ومعها يخرج الإله رع  ليكون شمساً و مسؤولاً عن الكون بينما نون بقي في حدود الكون ممثلاً للموت والفوضى موطناً للنفوس المعذبة التي لم تخضع للتطهير ومع ملاحظة أننا نجد في أحد الأساطير ما نجده في بابل وسومر حول إنطباق السماء على الأرض وفصل الهواء لهما .

كما تصف اساطير الخلق الهندوسية مياه بدائية ويقال أن الإله الڤيدي براجاباتي ومعنى اسمه سيد الخلق وفي كثير من الأحيان يتم تعريفه مع الإله الهندوسي الشهير  براهما  قد ولد من بيضة ذهبية تم إحتضانها لمدة عام في المياه البدائية وفي رواية اخرى خرج من زهرة اللوتس التي كانت تعوم على المياه البدائية .

ﻭﻓﻲ ﺍﻟﺘﻮﺭﺍﺓ الوصف الموافق للأساطير السابقة فنجد ﺍﻟﻤﻴﺎﻩ ﺍﻻﻭﻟﻰ ﻭﺭﻭﺡ ﺍﻟﺮﺏ ﻓﻮﻗﻬﺎ فنقرأ في التكوين ﻭﻛﺎﻧﺖ ﺍﻻﺭﺽ ﺧﺮﺑﺔ ﻭﺧﺎﻟﻴﺔ ﻭﺭﻭﺡ ﺍﻟﺮﺏ ﻳﺮﻑ ﻓﻮﻕ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﻤﺎﺀ  كما نلاحظ قيام إله التوراة بذات الفعل الذي قام به مردوخ في فصل مياه الفوضى تيامات وخلق السماء والأرض منها فالنص التوراتي أقرب منه للبابلي من السومري فيقول في التكوين

ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻠﻪ : ﻟﻴﻜﻦ ﺟﻠﺪ ﻓﻲ ﻭﺳﻂ ﺍﻟﻤﻴﺎﻩ ﻭﻟﻴﻜﻦ ﻓﺎﺻﻼ ﺑﻴﻦ ﻣﻴﺎﻩ ﻭﻣﻴﺎﻩ ‏

ﻓﻌﻤﻞ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺠﻠﺪ ﻭﻓﺼﻞ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﻴﺎﻩ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﺖ ﺍﻟﺠﻠﺪ ﻭﺍﻟﻤﻴﺎﻩ ﺍﻟﺘﻲ ﻓﻮﻕ ﺍﻟﺠﻠﺪ ﻭﻛﺎﻥ ﻛﺬﻟﻚ

ﻭﻗﺎﻝ ﺍﻟﻠﻪ : ﻟﺘﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﻤﻴﺎﻩ ﺗﺤﺖ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺇﻟﻰ ﻣﻜﺎﻥ ﻭﺍﺣﺪ ﻭﻟﺘﻈﻬﺮ ﺍﻟﻴﺎﺑﺴﺔ ﻭﻛﺎﻥ ﻛﺬﻟﻚ

ﻭﺩﻋﺎ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻴﺎﺑﺴﺔ ﺃﺭﺿﺎ ﻭﻣﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﻤﻴﺎﻩ ﺩﻋﺎﻩ ﺑﺤﺎﺭﺍ

مع ملاحظة ان التناخ يأخذ في بعض الاماكن النسخة السورية من اسطورة الخلق المتقاربة مع البابلية في حكاية بعل ويم

ﻭﻓﻲ ﺃﻟﻘﺮﺁﻥ ﻧﺠﺪ ايضاً اﻟﻤﻴﺎﻩ البدائية فنقرأ مثلاً في سورة هود ‏ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﺧﻠﻖ ﺍﻟﺴﻤﻮﺍﺕ ﻭﺍﻻﺭﺽ ﻓﻲ ﺳﺘﺔ ﺍﻳﺎﻡ ﻭﻛﺎﻥ ﻋﺮﺷﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺎﺀ ‏ وتأكيد على الخلق من الماء في سورة الأنبياء  ﻭﺟﻌﻠﻨﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺎﺀ ﻛﻞّ ﺷﻲﺀ ﺣﻲ ‏ لكن نلاحظ توافق النص القرآني مع الأسطورة السومرية أكثر من البابلية في الوصف فيقدم وصفاً لفصل السماء عن الأرض فنقرأ في سورة الأنبياء :

ﺃﻭ ﻟﻢ ﻳﺮ ﺃﻟﺬﻳﻦ ﻛﻔﺮﻭﺍ ﺃﻥّ ﺃﻟﺴﻤﻮﺍﺕ ﻭﺃﻷﺭﺽ ﻛﺎﻧﺘﺎ ﺭﺗﻘﺎ ﻓﻔﺘﻘﻨﺎﻫﻤﺎ

لماذا الماء

قامت ﻣﺪﺭﺳﺔ ﺍﻟﺘﺤﻠﻴﻞ ﺍﻟﻨﻔﺴﻲ ﺑﺘﻔﺴﻴﺮ ﻧﻈﺮﻳﺔ الخلق ﺍﻟﻤﺎﺋﻲ ﻋﻠﻰ ﺃﻧّﻬﺎ ﺍﻧﻌﻜﺎﺱ ﻟﺬﻛﺮﻯ ﻛﺎﻣﻨﺔ ﻓﻲ ﻻﺷﻌﻮﺭ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻋﻦ ﺣﺎﻟﺔ ﺍﻟﺠﻨﻴﻦ ﻓﻲ ﺭﺣﻢ ﺍﻻﻡ ﺣﻴﺚ ﻛﺎﻥ ﻣﺤﺎﻃﺎ ﺑﺎﻟﻤﺎﺀ أي السائل الأمينوسي ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺠﻬﺎﺕ الذي يخرج قبل الولادة بالتالي يمثل الخلق من الماء والخروج منه نحو العالم الخارجي الجاف ﻛﻤﺎ ﺃﻥّ هذه ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﺔ ﺗﺴﺘﺨﺪﻡ أﺳﺎﻃﻴﺮ ﻓﺼﻞ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻋﻦ ﺍﻻﺭﺽ لتأكيد ﻭﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮﻫﺎ ﻓﻲ ﺳﻴﻄﺮﺓ ﻋﻘﺪﺓ ﺍﻭﺩﻳﺐ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺸﻐﻞ ﺣﻴﺰﺍً ﻛﺒﻴﺮﺍً ﻣﻦ ﻧﻈﺮﻳﺔ سيغموند ﻓﺮﻭﻳﺪ ﻓﺎﻟﺮﻏﺒﺔ ﺍﻟﻤﻜﺒﻮﺗﺔ ﻓﻲ ﻻﺷﻌﻮﺭ ﺍﻟﻄﻔﻞ ﻭﺍﻟﻤﺘﻌﻠﻘﺔ بإﺑﻌﺎﺩ ﺍلأﺏ ﻭﺍﻹﺳﺘﺌﺜﺎﺭ ﺑﺎلأﻡ ﺗﺠﺪ ﻣﺘﻨﻔﺴﺎ ﻟﻬﺎ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻻﺳﻄﻮﺭﺓ ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮﻡ ﺍﻟﺒﻄﻞ ﺑﺈﺑﻌﺎﺩ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ‏ﺃﻻﺏ ‏ﻭﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﻓﻲ ﺍﻻﺭﺽ اﻷﻡ ‏

أما من خلال الملاحظة البسيطة خارج التحليل النفسي فيمكننا ملاحظة أهمية الماء لوجودنا بشكل بسيط دون تعقيدات فيجد الملاحظ أن حياتنا وحياة بقية الكائنات تعتمد على ركنين أساسيين  بزوال أحدهما ينتهي وجوده وهما الغذاء والماء بالنسبة للغذاء فتتعدد الأشكال والبدائل التي تتجاوز مئات الألوف من الأنواع اذا غابت مادة فيوجد بديل لها أما الماء فهو مادة واحدة وفي حال إختفائها ينتهي الوجود .

وكما أدرك أن وجود الماء مهم أدرك أن المياه الفوضوية الغير مضبوطة تحمل الخراب والموت عن طريق الأعاصير والفيضانات بالتالي حمل معه الماء وجها الموت والحياة وجمع المتناقضات لذلك اعتبر القدماء الماء عنصراً إلهياً فريداً غامضاً  قادراً يجمع المتناقضات بوجوده فيجمع ثلاثة أشكال صلب وغاز وسائل ويجمع المتناقضات كالموت والحياة في اثاره لذلك تم إعتبار الماء من قبل بعض الثقافات والفلاسفة القدامى أنه العنصر الإلهي الأساسي للكون.

أما فيما يخص المياه في التقاليد الدينية فنجد أن للماء دور هام في الحياة الجسدية والروحية للمتدين فتستخدم بعض المعتقدات المياه المعدة خصياصاً للأغراض الدينية والتي نسميها المياه المقدّسة و التي نجدها في معظم الأديان كالمسيحية والإسلامية والمندائية السيخية والهندوسية

كما تعتبر العديد من الديانات بعض المصادر المائية مقدسة أو على الأقل مباركة نتيجة ارتباطها بشخصيات مقدسة أو نتيجة ورودها من أماكن أو جبال مقدسة كنهر الأردن مثلاً له قدسية في بعض الكنائس المسيحية وبئر زمزم في الإسلام ونهر الغانج في الهندوسية

لذلك نجد في كثير من الأحيان أنه قد تم دمج المياه في العمارة المقدسة ونجد أحد اهم اقدم الدلالات المهمة عن هذا الفعل كان في الأساطير فنجد في الإينوما إيليش قيام الإله  إيا اله المياه العذبة مثلاً ببناء هيكله فوق الأبسو وفعلاً لهذه الأسطورة مكانها في بلادنا بمراجعة سريعة سنجد أن العديد من المعابد بلادنا قد تأسست على ينابيع طبيعية لا يزال بعضها يتدفق خارج المعابد ويمكن أن نحلل رمزية هذه الينابيع بأنها تمثل المياه البدائية في حين أن المعابد فوقها تدل على ترتيب الكون ومكان سكن الآلهة في المعبد المقدس وهذه المياه المقدسة التي تنبع وتجمع من المعابد بشكل خاص والمياه بشكل عام تستخدم في طقوس التنقية المختلفة كالعمادة في المسيحية والوضوء في الإسلام والغسيل الطقسي في الديانة اليهودية بالإضافة إلى ذلك  يتم إجراء طقوس في الماء النقي للموتى في العديد من الأديان بما في ذلك اليهودية والإسلام فهي ترمز إلى التطهير والولادة الجديدة والخصوبة وهذا ما نجده ضمن حكايا الطوفان المختلفة حول العالم ابتداءً بطوفان زيوسودرا و اتراحاسيس و اوتنابشتيم وفيضان النيل الذي يجلب معه المخلص اوزوريس و إنتهاءً بفيضان نوح

فيمكن أن نستنتج أن الإنسان ادرك منذ القدم أهمية المياه في إزالة الأوساخ المادية والأدران العالقة به في الإستحمام وما تحمل هذه العملية من راحة جسدية ونفسية للإنسان فإعتقد أن المياه التي تنبع من الأماكن المقدسة بالنسبة له ستقوم بتطهير مزدوج تطهير جسدي وتطهير روحي كونها تنبع من أرض القداسة فتطهر الروح من الخطايا والذنوب وتجلب للمتطهر الخلاص الروحي كمطر الشتاء الذي يغسل خطايا الصيف ليجلب الخلاص للأرض في الربيع

مصادر ومقالات متنوعة بتصرف

القلم الحديدي 1 / 10 / 2020

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى