مدخل إلي الفلسفة النظرية والتطبيقية (تابع الفلسفة الإسلامية 3)
د.مصطفي النشار الفصل
سار الفارابي علي نهج الكندي في فلسفته التوفيقية بين الدين والفلسفة ، وقد حاول التوفيق بين رأيي أفلاطون وأرسطو، وبين آرائهما وبين الإسلام وله تصور مميز في فلسفته الاجتماعية والسياسية.
الفلسفة عند الفارابي غرضها الوصول إلي الحكمة لمن يملكون جودة الفكر الناتجة عن جودة الذهن، وعنده الجمال النظري وهي المعرفة النظرية أما الجمال العملي فهو السلوك المطابق للنظرية ، كما يري أن الفلسفة في جوهرها تأمل ولذة وبهجة نتيجة هذا التأمل، ويمكن الوصول لهذه البهجة إذا أدت تأملات الإنسان إلي إقامة التوازن بين مطالب الجسم ومطالب العقل، ولا ننسي أن الإنسان كائن روحي عاقل في الأساس وسعادته تتحقق بتحقيق طبيعته الأصلية.
كان الفارابي مثل الكندي مؤمن بوحدة الحقيقة وهو ما دعاه في الأساس إلي التوفيق بين الفلسفة والشريعة، واهتم بنجما الفلسفة اليونانية أفلاطون وأرسطو، ورغم قول أرسطو بقدم العالم وهو مخالف للعقيدة فقد برر الفارابي قول أرسطو بقوله أن الله عنده هو السبب الأول، والسبب الأول واجب الوجود لأن العقل يسلتزم وجوده ولا يستطيع أن ينفيه (قانون السببية)، والموجودات قسمان واجب الوجود وهو الله وممكن الوجود وهو قسم يفتقر وجوده إلي سبب أي أنه مخلوق وينتقل من وجود بالقوة إلي وجود بالفعل بسبب واجب.
الجدير بالذكر أن محاولة الفارابي لنفي قول أرسطو بإنكار خلق العالم قامت علي قراءته لكتاب نقله المترجمون بالخطأ وهذا الكتاب لأفلوطين وليس لأرسطو اسمه (كتاب التاسوعات)، والفارابي له بعض التجاوزات وقد ألمح لها الغزالي في تهافت الفلاسفة.
جاءت فلسفته الاجتماعية والسياسية متأثرة بأصوله الإسلامية وحاول أن يجعل فلسفته أكثر شمولاً عن أفلاطون وأرسطو، وقد وضع صفات معينة للمدينة الفاضلة، ووضع صفات لما يمكن أن يجعلها غير فاضلة، ووضع اثني عشر صفة للحاكم الفاضل، وإن لم تتوافر فستة، وإن لم تتوافر وتوافرت مثلاً في اثنان أو ثلاثة ، فيكون ما يسمي بالمجلس الرئاسي الذي يقوم علي الانسجام والتفاهم.
تابع بن سينا مسيرة الفارابي التوفيقية وكان أستاذه العظيم، وقد انتشرت هذه النزعة التوفيقية انتشاراً واسعاً لم يقف لها إلا أبي حامد الغزَّالي في كتابه “تهافت الفلاسفة”، والجدير بالذكر أن الغزالي هاجم بعض الأفكار الفلسفية وليس الفلسفة، فلقد تعلمها وتعلم المنطق ومعظم كتاباته وبراهينه فلسفية منطقية بحتة وقبل التهافت كتب كتاب “مقاصد الفلاسفة”.
اختلف الغزالي مع الفلاسفة في عشرين مسألة منها ثلاثة خرجو فيها علي كافة الإسلاميين، وقد وقف أمام باب الإلهيات (الميتافيزيقيا).
الغزالي آمن بدور الشريعة قائلاً “إعلم أن العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لم يتبين إلا بالعقل ، فالعقل كالأساس والشرع كالبناء، ولن يغني أساس ما لم يكن بناء. ولن يثبت بناء ما لم يكن أساس”.
إيمانه بدور العقل والوصول للحقائق قائم علي فكرتين أساسيتين هما الشك والحس العقلي وهو ما يذكرنا بديكارت ومنهجه بالمناسبة
الشك ويتجلي ذلك في جملته الشهيرة “إن الشكوك هي الموصلة إلي الحق ، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر ، ومن لم يبصر بقي في العمي والضلال”.
الحدس العقلي دوره الإمساك بالحقيقة والوصول لليقين، وأوضح أنه لو قال له فلان أنه سيحول العصا لذهب وفعل لذلك فلن يشك في العلم ولكن سيتعجب فقط كيف فعل هذا!
في أواخر حياته اتجه للتصوف والمنهج النوراني الكشفي، فقد آمن أنه يمكن أن يكشف للصوفي عما لا يمكن للعقل إدراكه، وليس يمكن أن يُكشف له عن شئ يحكم عليه العقل بالاستحالة .
إذن الفلسفة لم يكن كارهاً للفلسفة بل كان محباً لها ومقدراً لدورها، اختلف مع غيره في مسائل معدودة لا أكثر ولا أقل وإن كان حاداً بعض الشئ في هجومه وقد نعزي ذلك إلي خوفه علي الشريعة.
مع حملة الغزالي علي الفلاسفة كادت الفلسفة أن تنتهي إلا أنها ازدهرت في المغرب العربي علي يد بن طفيل وبن باجه وبن رشد، وخصوصاً بن رشد الذي اشتهر في الغرب وسموه الشارج الأكبر لأنه أفضل من فهم فلسفة أرسطو واستفاد من خطأ السابقين .
كان بن رشد مؤمن إيماناً عميقاً بموافقة العقل للشريعة لأن الحق لا يضاد الحق مطلقاً، وفي كتابه تهافت التهافت رداً علي الغزالي بين أن الفلاسفة يكفيهم أنهم صناع المنطق والتفكير السليم وكفاهم شرفاً لهذا.
أوضح ابن رشد أن القرآن الكريم حث علي معرفة الموجودات بالعقل وطلب معرفتها به وما العقل إلا منطق وفلسفة سليمة، والشواهد من الآيات كثيرة، ولذلك قال المصطفي صلي الله عليه وسلم “طلب العلم فريضة علي كل مسلم ومسلمة.
وضع بن رشد شروطاً للتأويل العقلي
اقتصار التأويلات العقلية المحضة علي الفلاسفة.
مخاطبة الناس علي قدر عقولهم مثلما فعل القرآن وخاطب المسلم وغير المسلم كلٌ حسب قدراته.
فهم التأويل علي حقيقته وتطبيقه تطبيقاً صحيحاً وعلي المؤول أن يكون عالماً بأسرار اللغة وبشروط التأويل الصحيح.
كان بن رشد يؤمن إيماناً قاطعاً أنه لا تعارض بين مقتضي العقل والشريعة، ولكنه رغم ثقته الشديدة بالعقل إلا أن للعقل تجاوزات ولذلك جاء الوحي الإلهي ليحددها وخصوصاً في ما يخص المعرفة الإلهية والسعادة والشقاء في الدنيا والآخرة وأسبابها ووسائلها.
قدم بن رشد ست براهين لابد للجميع فيلسوفاً كان أو إنساناً عادياً مسلماً كان أو غير مسلم أن يقر بها وهي:
- وجود الله كصانع واتفق في هذا فلاسفة الإسلام واليونان ، واعتبر أن أهم دليلان علي وجود الله دليل الاختراع ودليل العناية وهما متجليان بوضوح في القرآن.
- الوحدانية التي تدل عليها الآيات والتي اعترف بها معظم فلاسفة اليونان “لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.
- صفات الكمال السبع التي يسندها القرآن إلي الله وهي [العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام] وهي صفات علي كل مسلم التصديق بها.
- تنزيه الله عن كل نقص “ليس كمثله شئ”.
المتأمل في هذه المبادئ يجد أنها ليست دينية فقط وإنما فلسفية وعقلية يصل إليها كل ذي عقل سليم وبرهان سديد وكل هذا يعبر عن التوافق بين الشرع والعقل